«غرفة» للإيرلندي ليني أبراهامسون: عالمٌ أكثر رحابةً خلقته الأم لطفلها في حبسهما

سليم البيك

باريس ـ صدرت في عام 2011 رواية للإيرلنديّة إيما دونوغ اسمها «غرفة»، نالت انتشاراً واسعاً ووصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة مان بوكر. اليوم خرج إلى الصّالات فيلم بالعنوان نفسه، مبني بشكل كبير على الكتاب، ومازال يتلقى استحساناً نقدياً، مرفَقاً بملاحظات تشير إلى أنّه، رغم كونه فيلماً ممتازاً، لم يكن بمستوى الحكاية كما نقلها الكتاب.
الإشارات إلى الرّواية تقول بأنّ الراوي فيها كان الطفل. الحكاية كلّها كُتبت من رؤية الطّفل لها، أي من إدراكه القاصر، لعمره، لما يحصل حوله. لكن الرّاوي بصيغة المتكلّم لا يمكن نقله سينمائياً تماماً كما هو، وهذه مسألة تخص طبيعة الفيلم ولا شيء آخر، يمكن الاستعانة بصوت راوٍ من خلف الشاشة (voice-over) ليحكي ما يراه، أو كيف يرى ما يحدث، لكن الفيلم في النّهاية يصوّر لنا ما يمكن اعتباره، روائياً، نقلاً بصيغة الغائب، أو الرّاوي العليم، أي أنّ المُشاهد يكون على اطّلاع أوسع، مما هو عليه باقي الشّخصيات، فله عين الكاميرا، وإن كانت بعض مَشاهده منقولة من وجهة نظر أحدها، وإن حرص مخرجه، الإيرلندي ليني أبراهامسون، على نقل الأحداث قدر الإمكان بصوت الطّفل وعينيْه.
لذلك، كان لا بدّ أن يكون الفيلم مختلفاً عن الرّواية، ولأسباب إضافيّة كذلك هي أنّ المساحة في الرّواية أوسع بكثير مما هي عليه في الفيلم، نحكي هنا تحديداً عن رواية بـ336 صفحة وعن فيلم لا يتجاوز السّاعتيْن، هذا ما يجعل الكتاب مرتاحاً أكثر في الحديث عن مراحل زمنيّة سابقة للأحداث الرّئيسية، في حين أن الفيلم يبدأ قاطعا تلك المراحل، يبدأ بالطّفل وقد صار عمره خمس سنين، كما يكون الكتاب مرتاحاً أكثر في التهيئة للحالة السيكولوجيّة للشخصيات وتقديمها ضمن سلوكيات وأحاديث يمكن التوسّع فيها، وهذه مسألة مهمة في حكاية عن محبوسيْن في غرفة لسبع سنين، أما الفيلم فلا تساعده حدوده الزمنيّة في الإطالة في نقل الحالة السيكولوجية لشخصياته، لكنّه فعل وتوفّق ضمن حدود المسموح، فيكتفي بتصوير بعض تمظهراتها: سلوكيات وأحاديث.
مما سبق يمكن القول إنّه من المجحف مقارنة الفيلم بالكتاب، لكل منهما أدواته وطبيعته الخاصة في نقل حكايته، ما لا يسمح بهذه المقارنة، فالقول إنّ الفيلم جيّد لكن ليس بمستوى الكتاب، وهنالك قراءات بالإنكليزيّة اعتمدت على هذه المقاربة، لا يقدّم قراءة مخلصة للفيلم كفيلم، كعمل مستقل له السيناريو الخاص المكتوب كما له اعتبارته المنفصلة عن العمل الأدبي، من التّصوير إلى الأداء إلى الموسيقى.
وكذلك، حين يكون الكتاب ناجحاً، فذلك يقلل من فرص القراءة الموضوعية للفيلم، فالرّواية إن كانت ناجحة فلا يعود ذلك إلى الحكاية التي تحكيها وحسب، بل أساساً إلى لغتها، إلى كيفيّة حكايتها، هنالك تقنيات خاصة بالأدب تؤخذ بعين الاعتبار هنا. ونقل الفيلم للحكاية ذاتها لا يعني أنّه ينقل التّقنيات الرّوائية في الكتاب، نحكي هنا عن طبيعتيْن مختلفتيْن تماماً. وفوق ذلك، فالحكاية ذاتها يمكن نقلها، أدبياً، في كتابيْن، واحد يجعلها ممتعة ومقنعة، وواحد يجعلها مملة ومعطوبة، هذا ضمن إطار الطّبيعة الواحدة في نقل الحكاية، فكيف إن خرجنا من طبيعة إلى أخرى، من الأدب إلى السينما.
لم تكن غاية هذا الفيلم نقل الكتاب والامتثال به، بل نقل حكايته إنّما بنسخة سينمائية. ليكن الفيلم إذن عملاً سينمائياً يتم تلقّيه على هذا الأساس، لا كمقلّدٍ سينمائي لعمل أدبي.
ضمن ما يسمح به زمن الفيلم، قُسّمت الحكاية إلى نصفيْن، الأوّل في الغرفة المغلقة التي حُبست فيها أمّ جاك، يناديها بـ»ما»، وجاك الطّفل ابن الخمسة أعوام. اختُطفت أمّه وحُبست في الغرفة وتمّ اغتصابها على مدى سبعة أعوام، في الغرفة تلفزيون وسرير ومايكروييف والمستلزمات الأساسية للعيش. لكن ما، الأم، تخلق عالماً متكاملاً لابنها، تحدّثه عن العالم خلف جدران الغرفة، يسألها عمّا يشاهده في التلفزيون، تحكي له عن أمور بسيطة ليس لديه سوى مخيّلته ليدركها، لكنّه لم يشعر بنقص كونه لم يعش خارج الغرفة، كل ما تحكيه له أمّه كان العالم، ولم يشعر بحاجة إلى أكثر مما تحكيه.
في النّصف الآخر من الفيلم يخرجان بطريقة تدبّرها الأم، بطلها يكون الطّفل الذي استمع جيّداً لإرشادات أمّه وحفظها، كونه متعوّد على ذلك، على بناء عالمه من أحاديث أمّه. حتى حين استطاع الخروج، ما كان يتردّد في رأسه كانت كلمات أمّه بصوتها، فالعالم كلّه كان يتلقاه من خلال هذا الصّوت، واستطاع بذلك إنقاذهما. هنا يخرجان إلى العالم الحقيقي، الواقعي، بما فيه من تناقضات، يقرّران أن يجرّبان كلّ شيء، هي ما افتقدته من حياتها ما قبل اختطافها، وهو ما يتعرّف عليه للمرّة الأولى، من المشي في الشّوارع إلى تناول البورغر.
كما حاول الفيلم التركيز على الجانب السيكولوجي لكليهما في المرحلة الأولى، في الغرفة، حاول كذلك التركيز على تلك الحال في مرحلة ما بعد الخروج، وهي مختلفة تماماً، نشاهد فيها الأمّ التي حافظت على هدوئها في الغرفة، تفقد أعصابها، والأسباب كانت دائماً تخصّ ابنها، منبعها، قلقها عليه، لم تفكّر لحظة في نفسها، في عزلها عن العالم واغتصابها لسبعة أعوام، كانت تمنع مغتصبها حتى من النّظر إلى ابنها أو لمسه. كلّ حياتها كانت ابنها، وقلقها عليه خارج الغرفة فاق القلق الذي استطاعت كبحه داخل الغرفة.
رُشّح «غرفة» (Room) لأوسكار أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو مُقتبس، والأمريكية بري لارسون نالت أوسكار أفضل ممثلة عن دورها، كما نالت جوائز أخرى عن الفئة ذاتها من بينها الغولدن غلوب والبافتا.
والفيلم لا يحكي عن أي شيء كما يحكي عن العلاقة بين الأم وابنها، عن الحب في أشد حالاته، في أكثرها محواً للذات، في قدرة الأم على خلق عالم مواز لابنها، يكون بالنّسبة له أكثر جمالاً ورحابةً من العالم في الخارج، قد يفسّر ذلك رغبتَه بعد خروجهما بعودتهما زيارةً إلى الغرفة. يعودان ويقول لها بأنّها ليست الغرفة التي يعرفها، يضيف بأنّ السّبب قد يكون الباب، الباب مفتوح والغرفة أضيق مما كانت عليه.
في غرفة صغيرة بباب مغلق ولا نوافذ، كان العالم بالنسبة للطفل أكثر اتّساعاً، كانت أمّه عالمه.

«القدس العربي»:

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..