مريسة فكي آدم

في مكان قفر لا يُسمع فيه إلا مواء القطط البرية، و”ضِباح” الثعالب ليلاً وصهيل الريح نهاراً، كنتُ رفيقاً لعجوز تجاوز السبعين من عمره يُدعى “فكي آدم”، نقيم في قطية صغيرة تتوسط غابة من الأشجار، نقوم بحراسة براميل الجازولين وتقاوي الذرة والسمسم (التواريب) في بداية موسم التحضير للزراعة … فكي آدم كان يملأ كل أوقاته بتلاوة القرآن، وكان صاحب صوت عذب تقشعرُّ لتلاوته الأبدان وتهيم النفوس في عشق الآخرة، فكان في كل عشية وضحاها يُحلّق بي إلى الملكوت الأعلى على أجنحة الترتيل والتجويد.
للأسف كنتُ وقتها أتعاطى “التُمباك”، وأنا لم أتجاوز سن السادسة عشرو… فكي آدم تفاجأ إلى درجة الذهول عندما رآني “مُدنكلاً” “سفتي”، وطفق يحدثني عن الهول والوعيد الشديد الذي ينتظر مُتعاطي “التمباك”… قررتُ أن أقلع عن هذا “السجم” لشدة ما سمعته من فكي آدم… وقبيل ساعات من اتخاذي القرار التأريخي بالإقلاع عن تعاطي “التمباك”، رأيتُ فكي آدم يترنح من السُكر وهو قادم من سوق “العزازة” الذي يبعد عن مكان الزراعة حوالي “15” كيلو أو يزيد، وكان قبل أن أراه على تلك “الحالة” قد استأذنني مبكراً لحضور صلاة الجمعة في مسجد العزازة، وقد وعدني بأن يدعو لي بالهداية من” السَّفة”.. قلت في غمرة الصدمة موجهاً حديثي له: يا فكي آدم إنت بتسكر؟؟!!! أجاب: ومالو (إيس هرام)، وزاد: أسكت ساي يا بتاع التمباك إنت كمان عندك خشم تتكلم … منذ ذلك اليوم كنا ندخل في جدال عقيم، كان يراني كافراً وشيطاناً رجيماً لكوني أتعاطى التمباك، وكنت أراه كما يراني هو لكونه يتعاطى “المريسة”، فكان طوال اليوم “يُشيْطنني” و”أُشيْطنه”، ويُأبْلسني واُأبْلسه، ويُكفِّرني وأُكفِّره… كان لا يقبلني ولا أقبله…
مشكلتنا العويصة أن عم آدم ينطلق من ثقافة ترى في تعاطي “التمباك” جريمة لا تُغتفر، وأن “السَّفة” من الكبائر، ولا يرى بأساً في تعاطي “المريسة” ويعتبرها “عيش” فقط أو “لُماصة” أو أي حاجة كدى … وكنتُ أنطلق من ثقافة أيضاً ترى أن شارب الخمرلا يُقبل منه عمل وأنه ما خُلق إلا ليكون حطباً لجهنم، وأن تعاطي التمباك “رجالة” أو هو ضوء أخضر بأني قد بلغتُ الحُلم… مشكلتنا أن كلينا ينظر للأمور داخل الصندوق الذي أغلق نفسه فيه وحبسها داخل زواياه الأربعة… مُشكلتنا أن كلانا لا يملك الاستعداد النفسي لقبول الآخر لأننا اتخذنا أحكامنا المُسبقة وفقاً لثقافة مغلقة، وفكر مغلق وكلانا “أطّر” أي حوار وفقاً لهذه المغاليق…
بعد أن كبرتُ وتجاوزتُ العقد الخامس وصلتُ لحقيقة أن كثيراً من ساستنا، وقادتنا، وكوادر أحزابنا الآن ما هم إلا فكي آدم وأنا في ذلك الحين…. اللهم هذا قسمي فيما أملك…
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.
الصيحة
هههه مقال رائع …دى زى قصى الاستاذ المشى مدرسة فى قرية فى جبال النوبة واكتشف انه فى ولد شارب مريسة وقام استدعى ولى امره وقال ليه ولدك شارب مريسة ورد الوالد: يعنى الولد ما يفطر ولا كيف؟!المريسة والبقنية كانت حاجة عادية لوقت قريب فى السودان.
هههه مقال رائع …دى زى قصى الاستاذ المشى مدرسة فى قرية فى جبال النوبة واكتشف انه فى ولد شارب مريسة وقام استدعى ولى امره وقال ليه ولدك شارب مريسة ورد الوالد: يعنى الولد ما يفطر ولا كيف؟!المريسة والبقنية كانت حاجة عادية لوقت قريب فى السودان.