كادوقلي عروس الجبال

كادوقلي ? عثمان الأسباط
حالة من الطمأنينة والارتياح تتبدى على ركاب الباصات السفرية وسيارات (الأتوس والكلك) في طريق كادوقلي. الأطفال يطلون من نوافذ العربات بين الفينة والأخرى للتمتع بالمناظر الخلابة والأشجار المخضرة على طول الطريق. من مدينة (الدلنج) تطل الجبال العالية وترتفع كلما زادت المسافات بين نوافذ البص الذي أقلنا من (قعر الحجر)، يتابع الجميع مناظر البيوت والأشجار التي تتراءى من علٍ، تبدو المنازل ظاهرة للعيان من المناطق المرتفعة وهي وسط الأشجار مشيدة بالطوب والأسمنت وأخرى مزينة بـ(القش)، الصبية يلعبون بعيداً عن الطريق، والرعاة يلوحون للمارة بأياديهم ويطلبون منهم قضاء استراحة قصيرة لإكرامهم بوجبة دسمة أو تناول لبن (الإبل)، مع هدية معتبرة من جبنة كردفان بنوعيها؛ العادي والمضفر.
الطريق مشيد بطريقة جيدة، حيث برع المهندسون في إنشاء طريق مبهر، وربما كانت سهولة ضبط عجلة القيادة على الطريق مغرية بما فيه الكفاية للسائقين، بحيث يضغطون على (الأبنصات) بلا رحمة.. سيارات (الأتوس والكلك) هي الوسيلة الأكثر تنقلاً بين مدن ولاية جنوب كردفان؛ يقودها الشباب والكبار. للدقة فقد وقعت حوادث مرورية بحسب إفادات السائق رغم جودة الطريق. على كل، فإن حركة المرور تمضي بسلاسة، مثلما أن المناظر الخلابة كفيلة بألا تجعلك تشعر بطول المسافة من الدلنج إلى عروس الجبال.
المسار و”الصهب”
في الطريق من كادوقلي مروراً بالكويك والكرقل وحجر الجواد وكركراية وإلى الدلنج تكثر الأشجار بين الجبال العالية، وتتنوع الخضرة، وتلفت أنظار المسافرين أشجار اللالوب والعرديب؛ تلك الثمار المفيدة التي رفدت بها الولاية أنحاء السودان المختلفة في الأسواق المحلية، وطبقت شهرتها الآفاق، علاوة على توفيرها لمداخيل متوسطة لسكان الولاية.. من فوق الجبال تطل أشجار الصهب الطويلة المتناسقة، حيث لعبت الظروف المناخية المتمثلة في المناخ الرطب -خاصة في فصل الخريف- والتربة الطينية والرملية دوراً في انتشار تلك الأشجار على طول الطريق، الممتد بالتوازي بين جانبي الجبال وينتهي بمحاذاة مدخل كادوقلي.
أشتات منثورة
تقع كادوقلي في منطقة جبال النوبة، وتحيط بها سلسلة من التلال، أبرزها جبل كادوقلي الذي تحمل المدينة اسمه، ويبلغ ارتفاعه حوالي (761) مترا. وحولها مساحات واسعة من السهول، تشقها عدة خيران تفيض بالمياه في موسم الأمطار، وتتجه في جريانها عادة من الشمال الى الجنوب، وتتكون من عدة تلال وجبال؛ فإلى جانب جبل كادوقلي تشمل جبال الدلنج، كاودا، الجبل الأبيض، القيقر، هيبان، جبل الريكة، جبل السما، الليري، أم دوال، وجبل كلولو. والحال كذلك فإن عروس الجبال تبدو لمن يزورها لأول مرة كأنها أشتات منثورة على تلال ومرتفعات خضراء تغلب عليها المباني الجميلة من الطوب والأسمنت والسيراميك بجانب التقليدية من أكواخ (القش) أي القطاطي. وتعد كادوقلي إحدى اهم مدن جنوب كردفان؛ حيث تضم بين ظهرانيها عديد الأحياء العريقة مثل الملكية، الرديف، كليمو، حجر المك، أم بطاح، بانت، السرف، كلبا، حجر النار، البان جديد، دردق، مرتا، الموظفين، تافري إلى آخر القائمة.
“جاكت” وأجواء بديعة
في عروس الجبال ومن بين الهضاب المخضرة وقطرات المطر الندية أطلت المدينة في أبهى صورة. الأجواء هنا نقية والسماء ملبدة بالغيوم ما جعل نهارات طقس كادوقلي بديعاً بالمقارنة مع الحرارة القائظة التي تركناها خلف ظهرانينا في العاصمة الخرطوم، وبعض المدن الأخرى. بلا تهويل فإن الأجواء باردة لدرجة أن البعض كان يتدثر بالجاكتات مع زخات المطر الذي يتساقط بكثافة.
طفرة وتنظيم
على غير العادة شهدت عروس الجبال طفرة جيدة في المعمار وتنظيم دقيق للشوارع الداخلية لتبقى مدينة الجمال التي سارت بحسنها الركبان، وتغنى بطيبة أهلها المغنون، وترنم بسحر جمالها الشعراء، وتاه في حبها الأجانب الذين عملوا في المنظمات. تمتاز المدينة بطقس معتدل خاصة في فصل الخريف في الفترة من يوليو وحتى أكتوبر، الحياة تمضي بسلاسة وساعات العمل تبدأ عند الثامنة صباحاً، كل المصالح الحكومية بلا استثناء وجميع المحال تقريباً إلا ما ندر. طلاب المدارس يمتطون الدراجات ذهاباً وإياباً وسوق المدينة ينبض بالحركة التجارية وتتوفر جميع البضائع والسلع، وفي العصاري يتجه البعض صوب ساحات الرياضة، أما في الأمسيات فتتجمل كادوقلي حتى يتوقف نبض المدينة، قبل أن تعاود نشاطها من جديد، وتدب الحياة في أرجائها مرة أخرى في الصباح.
مسارح ومنتديات
أقعدت ظروف الحرب كادوقلي عن الظهور في المشهد الثقافي الذي اضطلعت به كثيراً في العديد من المحافل وفي مختلف مهرجانات ومسارح البلاد وفعالياتها الثقافية علاوة على توقف المشاركات الخارجية في الفترة الأخيرة تبعاً لظروف الولاية ككل، ورغم ذلك ومع الاستقرار التي تشهده عروس الجبال عاودت دور المسارح والمنتديات نشاطها استعداداً لا خضم مشروع ثقافي في الولاية (كادوقلي عاصمة للتراث السوداني 2015م) الذي تم تكوين لجنة له من وزارة الثقافة الاتحادية وشرع المثقفين في تفعيل الأنشطة وفي أول خطوة جادة في المشروع الكبير قام وفد من التلفزيون القومي بزيارة لمدينة الدلنج وقام بتصوير فيلم وثائقي عن معهد التربية الدلنج وتبلدية جعفر، توثيقاً للدور الكبير الذي لعبه المعهد في سنوات الخمسينيات والستينيات وإلى الثمانينيات، حيث شهدت تلك الفترة أنضر سنوات المعرفة.
بجانب تلك الأدوار يتأهب شباب كادوقلي للمشاركة في فعاليات الدورة المدرسية المقبلة بالأبيض في كافة الأنشطة لمواصلة حصد الكؤوس والجوائز التي نالوها مرارة في دورات الدمازين وسنار رغم ظروف الحرب. كادوقلي تستحق بالطبع، كونها مدينة الثقافة والأدب والرقص الأفريقي المهول.. لا ننسى نصيبها من الشجاعة والإقدام، فكم من الجند البواسل انحدروا من تلالها هناك، بخلاف المصارعين الأشداء، حيث تستند على إرث ثقافي منذ قرون خلت، وخرجت من رحمها مدرسة (تلو) الثانوية في سنواتها النضيرة عندما كان للاسم رنينه وسطوته، للدقة فإن (تلو) هي مدرسة الأعلام والنجوم إلى جانب ثلاثية البلاد الكبيرة؛ (طقت، وحنتوب، ووادي سيدنا).. المؤسسات التعليمية الأشهر في السودان، والتي حقنت شرايين الوطن بالكثير من الأفذاذ والنوابغ. وقدمت عروس الجبال نجوماً سوامق بينهم على سبيل المثال لا الحصر؛ جلال كادوقلي، حامد بريمة، فيصل العجب، والفنان بابكر مكين والقاص والشاعر والمسرحي يحيى فضل الله العوض.
عودة الاستقرار
شهدت المدينة ومنذ فترة ليست بالقصيرة توقف الحرب وعودة الاستقرار بجانب عودة النازحين وتوفر سبل العمل المستقر، وبذل الوالي الجديد المهندس عيسى آدم ابكر جهوداً كبيرة في سبيل تهيئة الأجواء المثالية للسلام والاستقرار، وظلت كادوقلي في حراك دائم في كافة المناحي، بعد توقف دوي (المورتر)، حيث بات السكان أكثر سعادة، وظلوا قريبين من أعمالهم بكل اطمئنان، فيما ظلت المدارس مفتوحة ومستقرة، وعاد الكثير من الأهالي إلى ديارهم، وعاودت دور المسارح والفنون نشاطها الثر، بينما هب الجميع نحو الرحلات الترفيهية، أملاً في التمتع بالمناظر الخلابة، حتى يعيش الجميع في سلام.
تحديات الوالي الجديد
في راهن لحظتها تربض قبالة الوالي الجديد الدكتور عيسى آدم أبكر العديد من الملفات والتحديات التي ينبغي الإمعان والتحديق فيها ابتغاء رفعة وتقدم الولاية. بداهة يتصدر ملف بسط الأمن في الولاية وإيقاف الحرب أولويات السكان، بجانب مواصلة رحلة التنمية في ما يتعلق بالمشروعات الحيوية؛ مثل الصحة والتعليم وتوفير احتياجات الناس، فضلاً عن تكملة البنيات التحتية، علاوة على تشغيل محطة كهرباء (الدبيبات، الدلنج، كادوقلي)، التي اكتمل عمل تركيب الأبراج فيها وتم توصيل الأعمدة، لكن التشغيل الفعلي لم يتم من واقع أن هناك عقبات تتعلق بشؤون تمويلية وتحتاج إلى تحريك الملف من قبل الوالي عن طريق المركز.
للتذكير فقط، ثمة محك ينبغي التأكيد على أن عيسى أبكر قد يجتازه بأسهل الطرق؛ فالوالي القادم من منطقة تلس، في ولاية جنوب دارفور، وحامل الدكتوراة في الهندسة، سبق له وأن عمل في ولاية جنوب كردفان ضابطا للأمن، ويعرف تماما طبيعة المنطقة والولاية، ومدرك لخبايا إشكالاتها الأمنية، ما ينبئ بنجاح إدارته في الشق الأمني، عطفاً على معرفته التامة لطبيعتها وبؤر التمرد فيها.
تنمية الموارد
تتوفر ولاية جنوب كردفان على موارد عديدة ساهمت في دفع عجلة الاقتصاد السوداني وكانت من أهم مصادر دخول الناس، غير أن الحرب دمرتها في مقدمة ما دمرت، ما تسبب في وضع اقتصادي حرج في الولاية، لذا نجد أن أول تحديات الوالي عيسي آدم أبكر الاهتمام بتنمية الموارد المتاحة لتوفير فرص حياة لسكان الولاية ومشاريع منتجة مفيدة تصرفهم للعمل الجاد، ومؤخرا ظهر في الولاية معدن الذهب وبكميات معقولة، في منطقة كالوقي وباجون، ومناطق هيبان ودلامي. والحال كذلك فإن تقنين التنقيب عن الذهب وعكس مداخيله على اقتصاد الولاية وبنيتها من شأنه أن يسهم بقوة في الاستقرار، فضلا عن إحياء مشاريع الزراعة الآلية، والتي كانت مصدر توفير الغذاء الرئيس في السودان؛ مثل مشاريع البيضة، وهبيلا، وأبو كرشولا، والطيارة.
استقبال العائدين
ولتأكيد مبدأ حسن النية لإحلال السلام من قبل الولاية استقبلت حكومة جنوب كردفان بقيادة الفرقة الرابعة عشرة مشاه بكادقلي الأسبوع الماضي (14) من مقاتلي الجيش الشعبي التابعين لقطاع الشمال من بينهم ثلاثة ضباط برتبة ملازم وملازم أول إلى جانب العسكريين إضافة إلى (48) من المواطنين الذين كانوا محتجزين بمناطق التمرد، ووجه الوالي عيسى آدم ابكر لدى استقباله العائدين بتقديم كافة المساعدات والعناية العاجلة بالعائدين، مشيرا الى أن المناشدات المتكررة التي طرحتها الحكومة إلى جانب المساعي المبذولة للإدارة الأهلية بالولاية أسهمت في عودة هؤلاء العائدين من التمرد.
من جانبه أشاد الملازم أول نبيل الزبير أحد الضباط العائدين من التمرد بحفاوة الاستقبال التي وجدتها المجموعة العائدة من قبل حكومة الولاية، لافتا إلى أن عودتهم لحضن الوطن جاءت بإرادة تامة وعزيمة صادقة من أجل العمل على تحقيق الاستقرار بالولاية
اليوم التالي