الرقة? من يشتري الغد؟

رحب علواني
لاأزالُ هنا على «قيد» الحياة، وألفِ قيدٍ آخرٍ أيضاً، تُجاوزُ قدرةَ الرائي على الإحصاءِ والتفنيدِ حرفاً لا مجازاً..
هنا.. حيثُ كانت ترتمي في سالف النومِ العميقْ، بنتُ هارونَ الوحيدة، في سريرِ فراتها الجاري مقيدةَ الضفائرِ والحناجرْ.. واليومَ إذ ترنو إلى نعتٍ أدقّ، لك أن تسميها «مدينةَ كلِّ من يدُه لهُ» كما تقول العامية..
لا أزال هنا، آكلُ.. وأشربُ.. وأتنفسُ هذا الهواءَ غريبَ النكهةِ والرائحة، وأنسى وجهي بكل زقاقٍ أمر به، فأقصدُ بيتي كي أستعيد من المرآةِ بقاياً منه..
أخونُ ضميري هنا ودماءَ الشهيد صباحَ مساء، بفرطِ اعتيادٍ فريد..
هنا.. حيث صار محالٌ أن تتفق المآذنُ، حتى على وقتِ إفطار صائمْ، أجاري بعينينِ مثقوبتين، شاخصتينِ وفارغتينِ، مئةَ تظاهرةٍ أو يزيدْ، أَدورُ على ذاتي مرتين، «فأوشكُ» ألا أميزَ منها طريقي الذي سرتُ من عامين.. فيسوّدُّ قلبي!
«مسألةُ أولوياتٍ هي!» يصيحُ مراقبٌ عن بعد..
تسقطُ من يدي «البوصلةُ» على حين غرّة، وأبذلُ وسعي وأكثرَ كي ألتقطها، فأعجزُ أن أنحني وأجدَها، لطولِ المجالِ القابعِ بينَ غبارِ الأرضِ وسقفِ الحلمْ.. أقولُ لنفسي بصوتٍ أخفضَ من صمتِ خائنْ:
كلا.. بل مسألةُ أبعاد، هي مسألة أبعادٍ فقط! هنا نحتربُ مع ذاتنا، لوسع المسافةِ بين الأنا والأنا، أو لضيق المسافة بين الأنا والجميع!
هنا.. نتراكم ليلاً كجمراتِ نرجيلةٍ ملتهبة، متجاذبةٍ متنابذةٍ، وفقَ فيزياءِ الزمانِ ونغلي، ونغلي بأتونِ يأسٍ واحد، يبدو للرائي من بعيدٍ معدومَ القعرِ كالهاوية! تعصفُنا فيه رؤيا غريبة وأحلامُ أغرب، فيحدثُ مثلاً أن أشتاقَ ليومٍ ماضٍ من أيام الثورةِ قبلاً، في إحدى المدنِ «المحتلة».. (أفضّلُ أن أدعوها كذلك رغم امتعاضِ الكثيرين..) يومٍ أرى فيه صحبي دون حواجزَ مغبَرّةٍ بالقنوط وأجري، وأقتحم العالم الافتراضي دون قيودٍ غبية، فضائيةِ الأبعاد وأكثر، وأرشف فنجاناً من عصيرِ البنِّ «المحلى» ببطء ? نكايةً فقط بمن يحتسون الثقافةَ من كوب قهوه من غيرِ سكر- وأنهيهِ حتى آخرِ قطرةِ شوقٍ دون ضجيج.. دون أن يثقبَ حلكةَ ظلمته الساخنةِ هديرُ «الميـغِ» اللعينةِ أو «تشفيطُ» صبيٍّ بسيارة ٍتكبرهُ كثيراً، من دولةِ العراق والهندِ الصابئة..
بهذا المقامِ سأفشي إليكم سراً طريفاً؛ أكادُ أراهنُ ذاتي حيناً على أنّ عقلَ الواحدِ منهم: مسطحَ القشر، مجوفَ اللب، مقطّعَ الأوصال بين باحات الحنكةِ والذاكرة.. وأصلُ من الهلوسةِ حدوداً أدرسُ فيها فكرةَ أن أستأصلَ رأسَ أحدِهم بشكلٍ بريءٍ، محضَ استعارة! فقط كي أبرهن للبشريةِ نظريّتي الداعيه بوجودِ العقلِ المسطح!
يُقطعُ حلمي على حينِ نظرة، كما تقطعُ الكهرباءُ على مائدةِ طعامٍ هنا.. أو وسْطَ برنامج «البرنامج».. فيهربُ ذاكَ المذيعُ الذكيُ المحببْ، ويسوَدُّ قلبي..! فأصرخ فوراً: بلى.. لك أن تصدقَ حلمي المنمق، رغمَ سذاجةِ أبعاده!
هنا.. أفتقد الحديثَ المفصّلَ، رحبَ النهاياتِ وأشتاقه.. فأسألُ نفسي عن حالي؛ كيف أنت؟ وما الحال عندك.. أبخيرٍ أم بخير؟ وأقنعُ نفسي سريعا ًأني بخيرٍ، ثم أتمتمُ شيئاً لا مفهوماً حتى لذاتي..
أحرك ُرأسي فأوقعُ صوتي أرضاً ذبيحَ الأسى، تطيرُ حروفي سريعاً وتعلو.. فتسبقُ رائحةَ البارودِ والمسكِ والزيتون..
أمدُّ يديّ بعيداً فوق السماء، فأعجزُ أن أجمعها..
أصمت حيناً ثم أتمتم:
يلزمُ قامتي إذنْ قليلٌ من الطولِ..! لا بأس.. سأبتاعه الغدَ أو بعد غدْ.. بعدَ الفطورِ وقبلَ القيامة.. من بائعٍ متجوّل! رغم غلاءِ الأسعارِ هنا، وسوءِ الأحوالِ الجوية.. فالغدُ «لي».. وهذا كلُّ ما في الأمر!
ثمّ.. كريشةٍ في مهبِّ «الروحِ» يغفو الليلُ طفلاً في حنايا الذاكرة، متناسياً حبَّ الوطنْ، وعلى ترانيمِ المحبةِ تستفيقُ المجزرة.. فتدندنُ وحدها في عتمةِ الحُلُمِ الحزينِ، وكلُّ من في رحمِها ثاوٍ على كتفِ الوسنْ. ثمّ تطربُ وتغنّي.. وبملءَ القلبِ والإيمانِ تشدو بشَجَنْ:
«كلٌّ يغنّي على ليلاه.. وأنا على «وطني» أغنّي..
أيّها الوجعُ المُعتَّقُ.. انزعِ الأغلالَ عني!
واعتزلني.. اعتزلني..
لم يزلْ في القلبِ «بعضٌ» يتلَوَّى..
فوقَ أوتارِ التمنّي»
فجأةً! يستحيلُ الحلمُ «رؤيا».. ثمّ يطغى صَخْبُ هذي الحربِ.. صوتاً وصدىً، يسرقُ الأحلام منّي!
اِلفِظي يا حربُ راءَكِ.. واستريحي،
لم يعدْ في القلبِ وسعٌ للأنينِ.. وللتمنّي..
القدس العربي