الحاج جعفر أبو لهب

*(الأحمق ضال مضلّ، إن أونس تكبّر وإن أوجش تكدّر،
مجالسته تضر، وموالاته تغر، ومقاربته شتاء ومفارقته شفاء..).
– عبد الله بن المعتز –
.. لم يكن جعفر أبو لهب يعرف شيئاً عن القراءة والكتابة، ففي حياته اليومية لم تكن تلزمه تلك المعرفة، إذ إن مفرداته لا يمكن أن تصاغ كتابة، وبالتالي لا تثير لديه أي اهتمام. فلجعفر أبو لهب قاموسه الخاص الذي يتعامل به مع أصدقائه وجيرانه وأهل بيته وزوجته التي يمكن أن يناديها بأقذع المفردات التي تثير الحياء دون أن يشعر أنه أتى شيئاً خارج المألوف.
أما العكاز المضبب والسفروق والشوتال والكوكاب والخنجر والسكين والمطوة والسيف والدرقة فهي أقرب المقربين إليه في حياته، ناهيك عن أنواع الخمر ولفافات البنغو والتمباك والتبغ الملفوفة وما يتاح له من موبقات.
ولا يمكن له في حديثه مع أي كان إلا أن يحفل بالعبارات المقزعة من السباب والشتائم. ومع أن الصواب واضح والغلط واضح، فلم يكن ليخطر ببال أبو لهب التفريق بينهما، ليس لعدم إدراكه ذلك، بل لأن نمط حياته الذي ألفه هو كذلك. باختصار إنه مع شلة من أصدقائه يعيشون مجتمعاً صاغوه على هواهم، في الكمبو وبيوت الإندايه. ولذا فقد كان معظم أهل حيه يتجنبونه درءاً لشره الذي يمكن أن يطال أياً منهم.
طرق مرة جعفر أبو لهب باب جاره في إحدى الأمسيات ليسأله إن كانت فردة المركوب التي رمى بها ابنه قد وقعت عندهم؟
فالبيوت كانت مكشوفة وملاصقة بعضها بعضاً. أجفل الجار حين رأى أبو لهب أمامه وجهاً لوجه عند باب المنزل. ولعله لشدة خوفه وارتباكه قد بادر بدعوته لتناول الشاي.
لم يرفض أبو لهب الدعوة. لكنه فوجئ بوجود بعض الضيوف الذين يزيد عددهم عن العشرة أشخاص. وحين قدم الجار ضيفه إلى أصدقائه بكلمة: جعفر جارنا. وقف الجميع احتراماً للضيف، وصافحوه باليد واحداً واحداً، فلم يكن أي من الموجودين يعرف عنه أي شيء.
خلال الجلسة كان أبو لهب مستمعاً، فالجو غريب عنه، والجميع يتحدثون بطريقة مهذبة لم يألفها أبو لهب بين أصدقائه (الشرَّامة) كما يطلق عليهم.
ثلاثة أشخاص من الحضور كان الجميع يخاطبهم بكلمة يا حاج فلان.
وشخص آخر يدعونه بالأستاذ فلان. خلال السهرة بأكملها لم يستمع أبو لهب من أحد كلمة من الكلمات المتداولة بينه وبين أفراد شلته. وحين أذن العشاء قام البعض للصلاة، في حين بقي الآخرون في أمكنتهم يتحدثون بصوت خفيض كي لا يشوشون على أصدقائهم المصلين. بعد ذلك قدم صاحب البيت الشاي والحليب والباسطة.
مضت السهرة وجعفر أبو لهب في أجواء غريبة عنه، إذ لم يحصل أي شجار لا بالأيدي ولا حتى بالكلام. وفي نهاية السهرة أعلن أحد الحاضرين أن سهرة الأسبوع التالي عنده، وتابع: نرجو تشريفك وحضورك يا أخ جعفر.. لقد أثار دهشة أبو لهب ذاك الاحترام الذي وجه إليه بدعوته للسهرة مع كلمة تشريفك، وكلمة أخ جعفر.
وفي الأسبوع التالي كان أبو لهب يطرق باب جاره لمرافقته إلى السهرة المدعو رسمياً لحضورها. وأصبح أبو لهب مداوماً على تلك السهرات الدورية حريصاً ألا تفلت من لسانه كلمة في غير محلها.
في إحدى المرات خاطبه أحدهم بكلمة يا حاج جعفر، ثم استدرك قائلاً: الله يؤديك الحج يا جعفر.
ليلتها لم يعرف النوم إلى عيني أبو لهب سبيلاً، وهو يردد بينه وبين نفسه عبارة حاج جعفر، وأستاذ جعفر مرة أخرى. وأدرك أن لا سبيل للحصول على لقب أستاذ. لكنه يستطيع تحصيل لقب حاج. فحزم أمره. وكان الوقت موسم الحج.
العتال (محمود التليفة) شكّكَ في مسألة الحج من أساسها. حلف بالطلاق بعدد حبات عمود من السمسم، أوله في الأرض وآخره في السماء السابعة، أن (أبو لهب)، الذي يعرفه هو، حق المعرفة، منذ أن كان ولداً صائعاً ضائعاً يركضُ ويجرى وراء الحمير على المزارع.. لا يمكن أن يحج، وهو إنما خرج للتمويه وإسكات الألسن!
وهو، مع ذلك، لم يطِأ الأرض المقدسة ? يتابع (التليفة)- بل ذهب إلى بورتسودان فأمضى فيها فترة الحج شبع خلالها سِكْراً وتعريصاً.. ولما علم بعودة الحجاج أرسل إلى ابنه (عبدو كبسولة) كي يلاقيه بالنوبة، يتقدمُها رأية الفكي (أبو كرشولة) الخضراء ، لتمشي أمامه على إيقاع الـ(جُزُّمْ / جُزُّمْ دوُمْ دُومْ) من أول مفرق سنار التقاطع، وحتى منزله في حي ود العجوز.
غير أن كلام (محمود التليفة)، كما رآه معظم الرجال، ورغم عمود السمسم من الطلاقات، كان مبالغاً فيه.
صحيح أن ذهاب جعفر أبو لهب لم يكن بهدف تأدية الفرض، ولا لأي دافع نبيل.. لكنه حجَّ فعلاً.
فإذا كانت هذه الحارة تثق بكلام أحد، فبكلام الحاج عارف ابن أبو تنكة، الذي أكد أنه رآه هناك مرتين: مرة في مكه أثناء الطواف، والثانية في (منى) حيث ذهب الحجاج لرجم إبليس اللعين.
– رأيته يحمل كيساً مملوءاً بالأحذاية البلاستيكية، وكان العرق يزخُّه.
قلت له: لماذا الشباشب يا حاج جعفر، هل اصبحت تاجراً في الحرم المكي الشريف؟ فقال: لا، لأضربَ بها هذا الحقير الذي لا يستأهل الضرب بالحصى الطاهرة! وفعلاً أفرغ الشوال على الأرض وراح يضرب بها القببَ الواحدة تلو الأخرى.. وصار يكزُّ ويعض على أسنانه، حتى ظننت أنه سينطلق باتجاه القبة التي بداخلها إبليسُ الأكبر ليعضّها!
صحيح أنه وهو في الحج افتعل ثلاثة شجارات، وأفلت لسانه مرات كثيرة، لكنه كان مفعماً بالحماسة وهو يقوم برجم إبليس، لأنه كثيراً ما سمع في تلك السهرات أن إبليس اللعين هو أصل بلاء الناس.
لأكثر من أسبوع بعد عودته من الحج كان حريصاً على التجول في الحلة بالعباية والطاقية البيضاء، وكان أقام احتفالات كبيرة في بيته لدى وصوله من بيت الله الحرام. وليعلم أهل الحلة جميعهم أن أبو لهب قد أصبح اسمه الحاج جعفر، بدون أبو لهب. فلم يكن يهمه سوى اللقب.
وفي إحدى السهرات مع مجموعته الجديدة هذه والتي كان حريصاً على حضورها، قام البعض لأداء صلاة العشاء. ودعاه أحدهم: تفضل يا حاج جعفر.
وفيما كان الإمام يقرأ بصوت مرتفع الآية الكريمة: (وإذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس..) هنا نسى أبو لهب نفسه وندّت عنه صرخة بشتيمة مقزعة تتعلق بإبليس وأم إبليس وأخت إبليس، وبعد الصلاة نبهه الإمام أنه لا يجوز الكلام يا حاج جعفر في أثناء الصلاة، فما بالك بالشتائم النابية؟. وهنا صرخ أبو لهب: يا جماعة. أنا ما بحب إبليس عليكم الله ما حدا منكم يذكره قدامي، ولا يجيب لي سيرته. أنا بتكهرب من اسمه. يا جماعة افهموني.
لقد كان جعفر أبو لهب على حق. فهو الآن في حالة قطيعة وعداوة مع صديقه القديم إبليس. وكعادته لا بد من شتم عدوه حين يسمع باسمه، فالطبع غلب التطبع. والحق على هؤلاء الأصحاب الجدد الذين أوقعوا القطيعة بين هذين الصديقين القديمين.
[email][email protected][/email]
نموذج جعفر ابو لهب موجود في كل مجتمع ، وهو شبيه لجار لي وصورة بالكربون، تعجبني شخصياتك ، لقد قرأت رواية لك بعنوان الوشم .. وكنت أضحك كلما اتذكر ساذجة وبساطة هؤلاء القوم نايل انت كاتب كويس ربنا يزيدك ويقويك
انت طاعم يا دكتور و الشخصيات التي ترسمها بقلمك تمشي بيننا, و الله بتضحكني لامن كلاي يتوجعو لمن اقرا حكاويك لانو الشخصية بتكون قدامي بكل تفاصيلها.
تعرف انا بوافق جعفر لما تجي سيرة ابليس اللعين بس بكتفي باللعن, يكون جعفر في اللحظة ديك اتهيأ ليهو واحد من اباليسنا الحايمة اليومين دي.
متعتنا الله يمتعك
كعادتك مبدعا دوما…
الحاج جعفر اظنه هسه كوز كبير !