مقالات سياسية

آلية مبادرة حمدوك: لجنة تنفيذية أم ” طاولة مستديرة”؟

د. الحسن النذير

في مقال بتاريخ 14 أغسطس 2019, أي قبل عامين، تطرقنا لأزمة غياب الرؤية الإستراتيجية للبناء الوطني في السودان. للأسف ما زالت هذة الأزمة قائمة، بعد عامين من عمر الفترة الإنتقالية، وما زالت تلقي بظلالهاوأبعادهاالمأساوية علي كل تفاصيل حياتنا. هذا يحدث رغم شعارات الثورة “حرية سلام وعدالة” التي تصلح لوضع دستور كامل الاركان، يضئ “الطريق إلي الأمام” لتقدم وازدهار السودان.

رغم ثورة ديسمبر العظيمة، وشعاراتها عميقة الدلالات، والتي تفائلنا خيراً بأنه إن تحققت، ستؤسس لقاعدة متينة للتوافق حول المخرج من أزمة البلاد السياسية المزمنة، والتي استمرت منذ الإستقلال حتي الآن.

والسودان في واقع الأمر، طيلة هذة الازمة، ظل يدور في حلقة مفرغة شريرة (ديمقراطية، انقلاب عسكري، ديمقراطية، انقلاب عسكري….)!

في كثير من الدول، وبعد نيلها الإستقلال السياسي، توافقت القوي السياسية التي ناضلت من أجل الإستقلال، علي رؤية استراتيجية للبناء الوطني، ضمنت في دساتير تم عليها إجماع من قبل الفرقاء السياسيين بمختلف توجهاتهم وأيديولوجياتهم. الهند خير مثال. ودول أخري، توصلت إلي الإجماع علي الرؤية الإستراتيجية، والدستور الذي يحتويها ويحميها، بعد فترات متفاوتة، والأمثلة عديدة في امريكا اللاتينية وفي شرق آسيا وبعض الدول الأفريقية.
أما نحن في السودان، وللأسف، ما زال ينقصنا مثل ذلك الإجماع الهام، مما أوقعنا في الحلقة المفرغة الشريرة، المشا إليها. وفي كل مرة يثور فيها شعبنا ويسقط الأنظمة العسكرية القمعية، تتكالب أحزابنا التقليدية علي كراسي الحكم، دون مراجعة أخطاء الماضي، ودون التوافق علي رؤية إستراتيجية للبناء الوطني، ودون دستور دائم يحكم شروط التبادل السلمي للسلطة وأسس بناالدولة المنشودة!

في مبادرته الأخيرة، أشار رئيس وزراء الحكومة الإنتقالية إلي العقبات التي تواجه هذة الفترة، والتي هي في الأصل راجعة للأزمة التي لازمت البلاد منذ الإستقلال.

إن الصراع الدائر بين مكونات الحكم الحالية، والذي أعلن عنه رئيس الوزراء، ما هو إلا تعبير عن عدم قناعة بعض هذة المكونات بالإنتقال الديمقراطي، لاسباب من بينها الخوف علي المصالح الاقتصادية، التي اكتسبتها إبان النظام السابق. هذا من ناحية، ومن ناحية أخري وهي الأهم، يرجع تعثر الإنتقال إلي انعدام الإرادة السياسية للتوافق علي رؤية موحدة لإستكمال مستحقات الفترة الانتقالية المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، بما فيها المفوضيات المختلفة، قيام المجلس التشريعي، الاصلاحات المؤسسية الخ.. وانعدام التوافق هذا ينطبق ايضاً علي القوي السياسية التي شاركت في ثورة ديسمبر ، لكنها فضلت المحاصصة في تكوين الحكومة الانتقالية الثانية بعد التوقيع علي اتفاقية جوبا للسلام. هذة القوي السياسية، لم تضع أولوية لضرورة التوافق حول أسس البناء الوطني المنشود ومن ضمنه مستحقات التحول الديمقراطي، خاصة فيما يتعلق بالسلام المستدام، العدالة الإنتقالية، الإصلاحات المؤسسية اللازمة، والضرورية للتحول الديمقراطي.
بلا شك، إن الخلافات بين الفرقاء السياسيين الذين جمعهم التحالف العريض، الأوسع في تاريخ السودان (قوي إعلان الحرية والتغيير)، أفضت الي تشظيها، وبالتالي أدت الي إضعاف قوي الثورة وتعطيل مستحقات التحول الديمقراطي.
إن المخرج من الأزمة السياسية القائمة، كما أشرنا سابقاًً في سلسلة مقالات “الأزمة سياسية والحل سياسي”، يتطلب جلوس كل الفرقاء السياسيين (بما فيهم حركات الكفاح المسلح) ومنظمات المجتمع المدني، حول طاولة مستديرة، للتوافق علي الحد الادني من الأسس المفصلية التي تخرج البلاد من أزمتها السياسية الحالية. الجدير بالذكر، ان آلية الطاولة المستديرة، تمثل شرطاً هاماً من شروط تحقيق السلام المستدام لدي حركة عبد الواحد نور. وفي تقديرنا وتقدير الكثيرين، أن هذا التوجه له ما يبرره، لان قضية السلام، قضية قومية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بمجمل استحقاقات التحول الديمقراطي ومستقبل السودان السياسي. ودون شك كل ذلك يهم كل تيارات القوي السياسية، وبالتالي يتطلب جلوس الجميع لتداول جدي حول كيفية تحقيق السلام المستدام في إطار حل ازمة البلاد الشاملة والمستفحلة منذ فجر الاستقلال وحتي الآن. وذلك أيضاً أمر ضروري لضمان التزام كل الفرقاء السياسيين بمخرجات هذا الحوار.
ان المعالجة الجادة لقضية هامة ومحورية كمسألة السلام، والمفصلية لاستحقاقات التحول الديمقراطي والبناء الوطني، لا يمكن ان تترك لثلاثة من أعضاء مجلس السيادة ووزير من السلطة التنفيذية لكي يقرروا فيها . هذا بلا شك خلل جسيم يهدد مستقبل البلاد برمتها. ودون شك هذة المجموعة المحدودة العدد والافق لا يعقل أن تقرر في قضية السلام، إنابة عن الشعب السوداني ومجمل مكوناته السياسية والمهنية.

لا اختلاف في ان الهدف من مبادرة رئيس الوزراء، هو هدف استراتيجي هام، ليس فقط لانجاز مهام المرحلة الانتقالية، بل من اجل توافق كافة القوي السياسية والمجتمع المدني، للخروج من أزمة البلاد السياسية التي اقعدتها من الانطلاق نحو النماء المستدام والازدهار وتحقيق حياة كريمة للانسان السوداني. لكن يبقي السؤال قائم عن الآلية التي عن طريقها يتم التداول حول محاور هذة المبادرة والخروج بنتائج تضيء “الطريق الي الامام”.

لكي يتم التداول حول محاور المبادرة بطريقة ديمقراطية وشفافة، تؤدي الي مخرجات سليمة وعملية، من الضروري التوافق علي آلية تناسب حوار مجتمعي موسع يتيح الفرصة لكل الفرقاء السياسيين، لكي يساهموا بصورة فعالة والتزام بما يتم التوافق عليه. في تقديرنا ان آلية الطاولة المستديرة هي الانسب لهذا الغرض. ذلك النهج يتيح المشاركة الفعالة لجماهير ثورة ديسمبر المجيدة في بحث أزمة تعثر تنفيذ مستحقات الفترة الإنتقالية وتصحيح المسار في “الطريق الي الامام”.

في تقديرنا، ان ما طرحه رئيس الوزراء، هو تشخيص للوضع السياسي المرير، الذي تمر به الفترة الإنتقالية، وضرورة التوافق علي مخرج آمن منه. لكن الآلية التي طرحها العمل، لم تكن ملائمة وذلك للأسباب التالية:
– تحديد لجنة من كل الوان الطيف السياسي، لايجاد حلول للاشكالات التي طرحتها المبادرة، نهج غير موفق، نسبة لما يلي:
– انعدام الارادة السياسية لدي العديد من الذين تم ااختيارهم لعضوية هذة اللجنة.
– اختيار اعضاء اللجنة علي المستوي الشخصي، لا يضمن التزام الكيانات السياسية المختلفة بمخرجات عملها،
– تحديد هيكل تنظيمي للجنة برئاسة منتمية لحزب سياسي بعينه (حزب الامة)، نهج غير مناسب لاجراء حوار مجتمعي حر وديمقراطي،
– فتح الباب لبعض المنتمين لحزب المؤتمر الوطني المحلول، خاصة من بين قيادات الإدارة الأهلية ، خطوة قدتعوق مشاركة القوي الفاعلة للثورة في فعاليات واعمال اللجنة.

من جانب آخر، يؤخذ علي المبادرة نفسها، عدم الوضوح حيال ضعف او انعدام الارادة السياسية لدي مكونات الحكم الانتقالي، لاستكمال استحقاقات التحول الديمقراطي، ولدي الكثيرين ممن شملهم ما يعرف بمجلس شركاء الفترة الانتقالية. هذا المجلس
الذي تم تكوينة عقب التوقيع علي اتفاقية جوبا للسلام، يبدو أنه فاقد للإرادة السياسية لاستكمال استحقاقات التحول الديمقراطي. هذا اصبح امر بين للجميع، خاصة وان استكمال هياكل السلطة الانتقالية من مجلس تشريعي ومفوضيات العدالة الانتقالية واصلاح ااجهاز القضائي، والاجهزة النظاميةالخ..لا تبدو من الاولويات لهذا المجلس. لذلك، لم يكن غريباً ان يرفض أعضاء مجلس الشركاء، مثل مني اركو مناوي الانضمام لعضوية لجنة مبادرة رئيس الوزراء.
يتبع.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..