تعليم عالي أم تعليم معتل

أستطيع أن أدعي بأنني ظللت أكتب بلا ملل عن أحوال (وأهوال) التعليم العالي، وسأظل أكتب عنها كلما أتى على ذكر سيرته ذاكر، واذ تأتي الوزارة على ذكره بمؤتمرها المنعقد أمس، فلا بأس من أن نعود للكتابة التي لا نملك غيرها، وخير مستهلٍ لحديثنا تلك الطرفة التي تُروى عن الطالب الإقليمي الذي تم قبوله بجامعة الخرطوم أيام كانت جميلة ومستحيلة، قيل إن موعد وصول هذا (البرلوم الدايش) إلى الجامعة بل إلى الخرطوم لأول مرة تزامن مع ساعة الغداء وبعد أن وضع شنطة الحديد داخل الدولاب توجه مباشرة إلى قاعة الطعام (السفرة) وتصادف أن كان ذاك اليوم هو يوم الوجبة الخاصة (special meal) حيث كانت السفرة تحتشد بالمحشي والمحمّر والمشمّر وما لذَّ وطاب من لحوم البر والبحر والفاكهة والتحلية فأقبل عليها صاحبنا بنهم وشراهة و(شراسة) وعبّ منها أقصى ما تسعه بطنه حتى (وقف قربة) ثم عرج على مبرّد المياه (الكولر) وعبّ منه (كوزاً) كبيراً أتى عليه و(قرطعه) بتلذذ حتى آخر قطرة فيه ثم تمطّى وتدشّى (عااااع) وجذب نفساً عميقاً وقال (آآآه من كدّ وجد)…. تلك أيام خلت نعلم أنها لن تعود ولا نحلم بالعودة إليها فالزمان ليس هو الزمان والناس ليسوا هم الناس، رغم أن القيادات التي تقود شؤون الدولة الآن في التعليم وغير التعليم كانوا هم طلاب ذاك الزمان الذين لن تجد أفضل منهم ليحدثك عنه ويرصد لك الفرق الشاسع بين ما كانوا يتلقونه من علم نافع وما صار يتلقاه طلاب اليوم من حشفٍ وسوء كيل، وليس هناك أفضل منهم من يعقد لك مقارنة بين حملة شهادات الأمس الذين تتشرف بهم شهاداتهم ويشرفونها، وحملة شهادات اليوم الذين تتسع الفجوة يوماً بعد يوم بين شهاداتهم ومقدراتهم الحقيقية ومستوى تحصيلهم، وكل ذلك كما أثبتت الدراسات التي تقصت أسباب هذا التراجع المخيف والتردي المريع للنظام التعليمي بسبب زيادة أعداد الطلاب وتصاعد عدد الجامعات بمعدلات مالتوسية دون أن يواكب ذلك أي زيادة تذكر أو إصلاح في بقية الركائز الأساسية التي لا يستقيم عود التعليم إلا باستقامتها، وأدى ذلك بدوره إلى ما يشبه انهيار جسد التعليم من أساسه وإلى رأسه.
لقد ظللنا نصرخ ولا زلنا وسنظل نصرخ كلما وجدنا للصراخ فرصة أو مناسبة بضرورة إصلاح حال التعليم، نقول ذلك ونعلم أن (القرد في عين أمو غزال)، ولذلك لن نطالب بإصلاح ينقلب على (ثورة التعليم العالي) التي أصبحت (واقعاً) لا يمكن تجاوزه، ولكن بمراجعة هذه (الثورة) وإصلاح إعوجاجاتها وتقويم اختلالاتها ولو بمنطق (الثورة تراجع ولا تتراجع)، فبغير هذه المراجعة والإصلاح الذي يستهدف معالجة كل الثغرات ويسد كل النواقص ويوفر كل المقومات الغائبة لبناء نظام تعليمي متكامل تكون حصيلته مخرجات متكاملة عقلاً وروحاً وضميراً وسلوكاً، إذ لا صلاح ولا فائدة ترجى من الأشكال والهياكل (العظمية) التعليمية الموجودة الآن، وستبقى أي شكوى من نتائج امتحانات أو معاينات مخيبة ومخجلة هنا وهناك بلا معنى، فما دامت العلة قائمة فلن تنجب إلا معلولين.

تعليق واحد

  1. بالمناسبةعندما يتحدثون عن سودان الخمسينات والستينيات انهم يتحدثون عن ما تركه الإستعمار من محاولة لخلق دولة حديثة.وبعد الاستقلال بداء اندثار ما تركه الاستعمار من اثر للدولة الحديثة عام بعد عام الى ان انتهى في آخر ايام نميري. من ديك وعيييك بدأت البداوة والجلافة الزمان اللي كانت قبل الإستعمار. وبدا التقهقر وصولا الى مجاعةالمهدية. اليوم السودان في زمان دولة الفونج وبالمناسبة كانت تسمى اسلامية ومن صادراتها العبيد شفت محن السودان.
    مافي حل غير دولة حديثة ليبرالية تستعوب كل التباينات في السودان فالاختلاف واحترامه هوممر الزامي الى الدولة الحديثةبعيد عن اوهام الاسلاميين والشيوعيين والقوميين.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..