أخبار السودان

تهريب البشر.. مغامرات ضد القانون .. رئيس مركب: نخرج من السجن ونعود مجدداً للمهنة الخطيرة

سواكن: نازك جيلاني

في “الراكوبة” التي جلسنا داخلها كانت كآبة المكان تحيط بنا، والهواجس والمخاوف تتقاذفنا كموج البحر المالح الذي كنا نجلس قبالته بمدينة سواكن. يبدو أنهم اختاروا أن يعيشوا أجواء الغموض التي تحيط بمهنتهم الخطيرة والمريبة التي يحظرها القانون، بعد صمت لدقائق وتبادل للنظرات، طلبت منهم الكشف عن وجوههم الملثمة، غير أنهم ذكروني بأن هذا شرطهم للحديث معي، فوافقتهم ولم أعترض.

جلستُ مع مهربي البشر بولاية البحر الأحمر عبر المالح إلى شواطئ السعودية، الذين وجدت صعوبة بالغة في الوصول إليهم، ولذلك استعنت بوسطاء أتاحوا لي الاقتراب من المهربين والاستماع إليهم، فهم حذرون ولا يمنحون ثقتهم أحداً قبل التأكد من جدارته بها.

ولوج مبكر

اخترتُ أن يبدأ من يطلقون عليه لقب الزعيم الحديث عن هذه المهنة الغامضة، فبدأ حديثه قائلاً: نشأت منذ صباي الباكر في أجواء التهريب هذه، حيث إننى لم أحظ بأي قدر من التعليم، إذ كنت صبياً يتم إرساله هنا وهناك ألبي طلبات الكبار فيما يخص الأعمال الممنوعة فتارة أذهب مع العربات التي تأتي بالوقود وتارة أخرى أقف مراقباً الطريق ومرات عديدة مرشداً في الطرقات ليلاً، حتى إنني أتقنت هذه التجارة، وأنا على أعتاب المراهقة، وكانت تجربتي الأولى في الإبحار معاوناً لأعمامي ولا أنسى أول رحلة لي حيث أصبت بدوار البحر، وظللت أتقيأ طوال الرحلة، ولكن في رحلتي الثانية كان الأمر مختلفاً حيث ظللت يقظاً وواعياً أرصد ملامح الرحلة وأسأل عن كل كبيرة وصغيرة تخص الإبحار والرسو حيث إننى أمتاز بسرعة البديهة، وفي رحلتي الثالثة قدتُ القارب تحت إشراف عمي حيث أوصلت الشحنة بسلام إلى شاطئ المملكة العربية السعودية، مما جعلني أكتسب شهرة واسعة كأصغر (ريس) في مجال تهريب البشر.

سألته عن زبائنهم من الذين يمخرون عباب البحر عبر مراكب لا تتوفر فيها أدنى مقومات السلامة، فكشف آخر عن أنهم يأتون غالباً من دول الغرب والقرن الأفريقيين، رجالاً ونساء وأطفالاً، يتم تجميعهم بواسطة سماسرة متخصصين من مختلف ولايات السودان منها القضارف، كسلا، الخرطوم وحلفا الجديدة التي يتسللون إليها من دول الجوار عبر الحدود البرية، ويتحركون داخل سواكن بعد وصولهم إليها في مجموعات صغيرة لا تتجاوز الثلاثة أفراد حتى لا يلفتوا الانتباه، ويتم تخزينهم في منازل نائية في أطراف مدينة سواكن، ويتولى السماسرة شأنهم حيث يقومون بترتيب كل ما يلزم من أكل وشرب بكميات كافية حتى لا يخرج المسافرون من المنازل بغرض التسوق، وتتراوح القيمة التي يدفعها الراكب من سواكن إلى جدة بين ألف إلى ألفي جنيه، ويتم توزيع المبلغ بين مالك المركب (اللنش) إذ يتقاضى الريس الذي يقود المركب ثلاثين ألف جنيه سوداني في الرحلة، وكذلك يتقاضى البحارة في الرحلة 25 ألفاً لكل واحد منهم، ويتم تسليم كل هذه المبالغ قبل الشروع في الإبحار عند الشاطئ ويأتي مناديب البحارة والريس لاستلام المبلغ ومن ثم الإبحار حيث إنهم لا يبحرون بحوزتهم المال، ويتم كل ذلك بعد أن يقوم السماسرة بجلب مجموعاتهم بطريقة سرية وتحت جنح الظلام إذ يقوم كل سمسار بجمع أفراد مجموعته، والسير بهم ليلاً في دروب آمنة وبعيدة عن الأنظار إذ تتصف مجموعاتهم بقلة عددها.

مراقبة

بعد اجتياز كل نقاط التفتيش والمراقبة الأمنية بالسواحل المطلة على مدينة سواكن، وفي نقطة معينة يتم تجميع المجموعات كلها إذ تأتي السيارات التي تعمل ضمن شبكتهم وتنقلهم إلى شواطئ جنوب سواكن في المراسي المنتشرة هناك، وعادة ما يتم تغيير الشواطئ بين الحين والآخر حتى لا يلفتون الانتباه، بعد ذلك يصطف المسافرون على الشاطئ أمام ذلك القارب الصغير الذي يقلهم إلى (اللنش) الذي يرسو في مياه أعمق ومن المعروف لديهم أن كل مجموعة منهم تنتمي إلى سمسار معين مسؤول عنها وعن توريد أجرة نقلهم بعد خصم عمولة السمسار إذ يعتبر السماسرة شبكة قائمة بذاتها ولها مستوياتها المختلفة، إذ تختلف المبالغ التي يتقاضاها السماسرة باختلاف مستواهم في السمسرة، وكذلك ملاك المراكب يعتبرون شبكة تتعاون فيما بينهم، ولكن يعمل ريس كل لنش على انفراد إذ لا يتم عمله عبر شبكة، وذلك نسبة لقلة أعدادهم التي لا تتجاوز أصابع اليد لأن المهنة تحتاج مهارات خاصة ومعرفة.

بداية رحلة المجهول

ينطلق القارب بالركاب أطفالاً ونساءً شيباً وشباباً، وهناك خلفهم في القارب تصطف أوعية الوقود الذي جمع وخزن قبل الرحلة بكميات قليلة حتى لا يلفت الانتباه، صفائح التمر وجركانات المياه العذبة هي كل زاد الرحلة علماً بأن معظم الركاب يحملون في أيديهم القليل من الزاد والماء تحسباً لأي طارئ، في الساعات الأولى من الصباح يمخر القارب عباب البحر في بداية الرحلة نحو شواطئ العربية السعودية، وهو يقل ركاباً يتراوح ما بين المائة والمائتي راكب (والأطفال مجاناً) تتواصل الرحلة طوال ساعات النهار وتحت أشعة الشمس الحارقة حيث تتم معظم هذه الرحلات صيفاً نسبة لهدوء البحر واعتدال الجو وغياب الأمواج العاتية والرياح التي تعترض طريق القارب ومع غروب الشمس يتم الوصول إلى آخر الجزر السودانية حيث ينزل الركاب لقضاء ليلتهم هناك مع منع إشعال أي نيران زيادة في الحرص على سلامة وصول الرحلة وعدم لفت أي أنظار.

في انتظار الظلام

وفي الساعة الرابعة صباحاً يصعد الركاب إلى القارب وتتواصل الرحلة إلى الشواطئ السعودية دون توقف فيبحر القارب نهاراً وليلاً ولا يسمح للركاب بالتحرك أثناء الرحلة حتى لا يختل توازن القارب في عرض البحر، وفي الساعات الأولى من الصباح تلوح فى خط الأفق أضواء مدينة جدة وعندها يبدأ اللنش في تخفيض السرعة حتى لا تصل إلى الشاطئ نهاراً وننتظر إلى أن يحل المساء وفي حوالي الساعة الثامنة مساءً يرسو على الشاطئ الرملي بدون استخدام أيه أدوات للرسو إذ يأتي القارب مندفعاً ولغرس مقدمته في الشاطئ الرملي وينزل الركاب ويعود القارب بأقصى سرعة الي داخل البحر وبعيدًا عن الشواطئ السعودية، ويشير أحد الذين كانوا يتحدثون لـ(الصيحة) من داخل الراكوبة الى أن السلطات السعودية ضربت سياجاً من المراقبة على شواطئها وهذا جعلهم في كثير من الأحيان يفضلون الاتجاه إلى السواحل اليمنية على أن يكمل سماسرة ومهربون بدولة اليمن مهمة إيصال الباحثين عن الهجرة وإيصالهم إلى السعودية عبر الجبال الواقعة بين البلدين.

مغامرة خطيرة

وعن أصعب المواقف التي مرت بهم قال محدثي: في إحدى مغامراتنا تحركنا بقارب خشبي من أحد مراسي جنوب سواكن وكان على متن القارب قرابة المائة وخمسة عشر راكباً، وكانت ماكينته من الديزل، وفي مثل هذه الحالات إضافة للبحارة يوجد ميكانيكي ليهتم بالماكينة التي قد تتعطل في عرض البحر، عموماً تواصلت رحلتنا في هدوء وأمان وبلغنا الشاطئ السعودي بسلام وأنزلنا كل ركابنا وكانت المفأجاة أن الميكانيكي استغل الظلام ونزل مع الركاب فاراً إلى مدينة جدة، وكان لنا مع القدر موعد، ونحن عائدون بأقصى سرعة تعطلت الماكينة وكلنا لا نعلم شيئاً عن صيانتها فظللنا تحت رحمة الرياح فتارة تسوقنا إلى الشرق ومرة أخرى إلى الغرب والجنوب والشمال إلى أن وقعنا في قبضة السلطات السعودية حيث أن قوارب التهريب معروفة لديهم بطريقة تجهيزها، وبعد 4 أيام قضيناها في عرض البحر حكم علينا بالسجن ثلاثة أشهر وصادروا قاربنا ومن ثم تم ترحيلنا إلى السودان برغم إنكارنا، ولكن فور وصولنا مباشرة قدنا شحنة أخرى إلى نفس الوجهة ورجعنا بسلام.

مواثيق وعهود

يشير محدثي إلى أن وجود مواثيق غير مكتوبة يلتزم بها الأفراد العاملين في مجال تهريب البشر، وأنه وفي إطار التنسيق بينهم تنطلق أحيانا أكثر من رحلة في ليلة واحدة، ولكن كل قارب يسلك طريقاً مختلفاً وينزل ركابه في جزر مختلفة، وكذلك تختلف شواطئ الإنزال بالسعودية، وما يساعدنا في تطوير أعمالنا في السنوات الأخيرة استخدامنا لأجهزة الثريا في ربطنا بعضنا ببعض وجهاز الـملاحة المتطورة، وفي معرض حديثه ذكر أن هذا العمل مجزٍ وعائده المادي كبير، بالنسبة لكل الأفراد العاملين في هذا المجال، وقال إن هذا العائد الكبير يستحق المجازفة بحق.

جزر وانتظار

جلست إلى مهرب آخر كان شاباً ثلاثينياً يتحدث بزهو وخيلاء عن مهنته ولم أعانٍ كثيراً في انتزاع المعلومات منه، فقد كان حديثه ثراً يذكر فيه كل ما يعترض ذهنه، قال: أعمل في هذه المهنة منذ فترة ليست بالقليلة إذ نشحن رحلتنا من جنوب سواكن ونقوم بإنزالها في السواحل السعودية وتحديداً في مناطق حفار والقنفدة قرب مدينة الليث وراس كشران وخور الزواحل، بعد أن نقضي ليلة في كل رحلة من رحلاتنا في الجزر السودانية كجزر برموسات وتمرشح وشعب لوكا ومسامريت، وأضاف: ونمر ببعض الجزر السعودية لننتظر فيها حتى غروب الشمس لننزل إلى السواحل السعودية كجزر شعب راشد والخمسات وأبو وصل الشامي واليماني وجبل عجوز وجبل الليث.

ورطة في الساحل السعودي

وعندما سألته عن حالات القبض التي تعرض لها، ضحك طويلاً وقال: في إحدى المرات كنت (ريس المركب) وعندما اقتربنا من الساحل السعودي ببضعة أميال بدأت ماكينة القارب تخرج دخاناً أسود ملأ الجو لم نستطع إيقافه وما هي إلا دقائق حتى أتى قارب حرس الحدود السعودي لإنقاذنا وهو لا يعلم من نحن، وعندما وصل علم مستقلوه بأمرنا فاستجديناهم بأن يعفوا عننا ولم يستجيبوا وأخذونا إلى محكمة مدينة القنفدة أنا ومعي الركاب وقدمنا إلى القاضى بتهمة التسلل وحكم علي بالسجن ثلاثة أشهر وبعدها الترحيل إلى السودان، وقد كان سجن القنفدة يتميز بمستواه العالي في الخدمات والمعاملة الحسنة للسجناء إذ أجريت لي عملية جراحية ( زائدة) وعوملت بأحسن ما يكون بداخل السجن والمستشفى وكنا نعمل بداخل السجن إذ نغسل الملابس ونكوي وننظف لقاء رواتب مجزية.

موقف آخر

أما في المرة الأخيرة التي قبض علي فيها كنت أيضاً الريس الذي يقود المركب انطلقت أحمل 75 راكباً وأيضاً كانت المشكلة الماكينة التي تعطلت عندما رسوت بالقارب في الشاطئ وأنزلت الركاب، حيث توقف القارب وجاءت السلطات السعودية وأخذتنى والبحار الذي يرافقني إلى سجن الليث بعد أن حكم علي بسنة سجن وتم إطلاق سراحي في رمضان بعفو ملكي بعد أن أتممت الستة أشهر، وقبل ترحيلي إلى السودان تم تصويري بأجهزة غريبة وعدت راجعاً، بعدها بفترة حاولت السفر إلى المملكة العربية السعودية بطريقة شرعية كبحار بإحدى السفن وعندما وصلت ميناء جدة تم منعي من دخول الأراضي السعودية نسبة لـ ( فيش) سابق يمنعني من الدخول إلى المملكة بصورة رسمية.

خطر ولكن

الذين جلست إليهم من مهربي البشر أكدوا أن ركوداً أصاب مهنتهم بداعي تشدد السلطات في السودان واليمن، غير أنهم لفتوا إلى صعوبة تركها لجهة العائد المجزي الذي تدره عليهم ، وإن كان أحدهم قد أكد اتجاه عدد كبير من المهربين ناحية مهنة صيد الأسماك لاستحالة العمل في الوقت الراهن ومستقبلاً.

شكرتهم وودعتهم وتمنيت أن يتركوا هذه المهنة الخطرة والممنوعة قانوناً.

الصيحة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..