الصباغ.. مدينة تبحث عن ذاتها الضائعة.. مأساة تاريخية

البطانة – محمد عبد الباقي
لم يعد حساب الوقت بالعام أو بالشهر، إنما صارت الشعوب تحصي مسيرتها للأمام بالثواني، ولو كانت هنالك وحدة قياس للزمن أقل من الثانية لاستخدمتها أُمم كثيرة قبل أن نسمع بها عبر وسائط التواصل الاجتماعي التي قلصت المسافات وكشفت الحُجب للذين يقبعون في مناطق الظل في العالم، في ظل هذا الركض الحثيث لا زالت مناطق عديدة داخل السودان ترتدي دثاراً فُصل قبل حوالي مائة عام ويزيد بسنوات غير معدودة، ولم تستطع خلعه، وهو الذي صار بالياً لا يستُر عورة ولا يقي من زمهرير ولا يحجب من شمس.
ونعني، أن المواطنين في منطقة بأُهمية البطانة بولاية القضارف يحصلون على مياه شربهم بوسائل أستخدمها أسلافهم في غابر التاريخ كـ(الدلو)، من أبار جوفية طولها عشرات الأمتار حُفرت بأيادي الرقيق عندما كان الإنسان سلعة يُباع ويُشترى ويحتفظ به ضمن الأملاك والورثة.
التزام بوعد
لن نتعرض للعجز الرسمي عن إنجاز واجب ما، هذا معلوم بالبديهة، كذلك سنتجنب تضخيم المعاناة ونكتفي بسرد تفاصيلها وشذرات منها احتراماً لمشاعر البعض، ورغم أن أصحاب المشاعر أصبحوا قلة، إلا أننا لن نسلبهم حقهم الطبيعي بالحفاظ على مشاعرهم نقيهم وأمزجتهم صافية حتى إكمال قرأة بقية مواد هذه الصحيفة التي وللحق أن ما يُبذل فيها من جهد يفوق كل التوقعات، إذن سنفصل في إفادات لسكان المنطقة أنفسهم وهم أحفاد ولا حاجة لي هنا للإشارة للقرن وزيادة من السنوات التي ورد ذكرها عالية مما يؤكد أن المتحدثين هنا أحفاد، ونشدد على أنهم أحفاد رغم أن الصورة المرفقة تُبين وجوه بعضهم بلحى كثة تخلو من الشعر الأسود بالكامل، التزاماً بوعدنا سوف ننقل الحكايات بطريقة لا تجرح كرامة السكان في تلك المناطق، والقارئ يعلم دون شك أنهم في أشد الحاجة لمثل هذا الموقف خاصة وأن ما يرد هنا لا نعني به المسؤولين بحكومة القضارف التي من شدة إخفاء عجزها عن توفير مياه نقية لمواطنيها أبتدعت في سنوات ماضية وزارة ولائية للمياه ولا زالت تتحدث عن توفير المياه كأن تلك الولاية تقع في الربع الخالي في الصحراء.
حلول غير مجدية
لا يستطيع أحداً اللحاق بركب الزمن إذا تجاوزه قيد أنملة، هذه قاعدة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل. ووفقاً للمنطق الأشياء فإن محاولات رتق القديم لن تُجدي نفعاً بحسب وصف “محمد البلولة” رئيس اللجنة الشعبية لقرية أبوجولة بمحلية البطانة والذي وصف الطرق التي أصبح المواطنين يتبعوها لإستخراج مياه الشرب من عمق الآبار التاريخية بالغير مجدية لأنها تُكلف أموالاً طائلة لا تتوفر إلا في خزائن الأثرياء، فهم وحدهم يمتلكون مولدات كهربائية ينزلونها بالحبال الطويلة حتى تلامس قعر البئر لترفع المياه بواسطة خراطيش طويلة للخارج. وأضاف البلولة المواطنين البسطاء أو الأطفال الصغار والنساء ليس لديهم خيار سواء جلب حصتهم من الترعة المجاورة للأبار أو ينتظرون حول الآبار الجوفية حتى يأتي صاحب (تانكر) لديه مولد كهربائي يتفضل عليهم بعد أن يملأ تانكره.
تقعقر وثبات
الإشارة السابقة لاستحالة اللحاق بالزمن تجسده الآبار موضع هذه المادة، فقد تم حفرها قبل ما يفوق المائة وخمسين عاماً، ومن مياهها شيدت مباني مدينة الصباغ حاضرة محلية البطانة بكاملها، هذا معلومة تاريخية مهمة يحتفظ بها “محمد البلولة” والذي أوضح أن الصباغ كان لها صيت في حقبة الاستعمار وفي الحكومات الوطنية الأولى إذ حظيت برعاية كبيرة نسبة لموقعها، فكان نصيبها من الخدمات عدة مدارس إبتدائية ومتوسطة وداخليات واسعة للبنين والبنات ومراكز للعلاج، ولكن بمرور السنوات وتعاقب الحكومات تحولت لمنطقة منسية فعاد سكانها للاعتماد على الآبار الجوفية التي كان يشرب منها أجدادهم واستمروا على نهجهم إلى اليوم، فتجاوزهم الزمان بسنوات طويلة وهم في ثباتهم، حتى أصبح من الإستحالة بمكان ابتكار حلول جزئية تضع حداً لمأساتهم المزمنة وهي واحدة من مأسي عديدة يتجرعونها ليل نهار دون أن يبرق لهم ضوء حل قريباً
اليوم التالي