احياء الموات

شاسعة هي الأرض ، مما لم يعمر بعد. وإذا نظرت من الطائرة ستشاهد وديانا وأحقافا وسهولا خالية من البشر ، رقاع أرضية هائلة المساحة ؛ لازالت رطبة وعذراء ، لم يطمسها انسان.
في العهود القديمة كان تعمير الأرض يبدأ بهجرات واسعة -ليس بالضرورة أن تتخللها حروب- كان البحث عن الماء والكﻷ للرعي والصيد والزراعة ، ولم تكن هناك حدود سياسية بالمعنى الصارم ؛ أي قبل ظهور الحضارات القديمة ، وكان تعمير الأرض يتم بإحياء الموات من الأرض ، ثم جاءت الحضارات القديمة فوضعت حدودها دون أن تمنع التنقل مابين الحدود ولكنها فرضت قوانينها على رقعة أرضية ، قلل وجود القانون من حرية التعمير ، وبدأت المدنيات تجذب سكان الأطراف الى الداخل ، واستمر تطور النطاق المكاني لتطبيق القانون المعبر عن السيادة الى أن بلغنا مرحلة الدولة الحديثة ، حيث يواجه الأفراد والجماعات بصد القانون الاقليمي ومنعهم من التنقل بحرية والسكنى في أي مكان يرونه مناسبا ، فظهرت مصطلحات تعكس فكرة السيادة القانونية كمصطلح “عشوائيات” ، وتخطيط عمراني ، ومسح جغرافي ، وملكية خاصة ، وحكر أو حق الانتفاع ، …الخ يعبر كل ذلك عن قيود على احياء الموات ، ويجعل الأرض في انتظار تحرك الحكومة من أجل التعمير المقصود وليس التعمير الطبيعي فالتعمير المقصود تعمير اصطناعي خلافا للطبيعي الذي يحدث نتيجة لنزوح وهجرات. وهذا التعمير الاصطناعي يبدأ بوضع البنى التحتية والفوقية لتيسير معيشة الناس وامكانية انتفاعهم بالأرض ، رغم أن البشر بشكل عام يستطيعون العيش في دور هجرتهم بدون هذه البنى التحتية ، فالقانون بدلا عن أن يفتح أبواب التعمير عبر تشجيع الهجرات ؛ نراه يقيد تملك الأرض أو على الأقل الانتفاع بها عبر ملكية الدولة السياسية . ووفق اجراءات طويلة ومعقدة ، بل وقد يمنع ذلك تماما .
قد يقول قائل بأن القانون يمنع الصراعات حول الملكية -وهذا صحيح- لكنه في الواقع يحد من امكانية احياء الموات وتعمير هذه المساحات الشاسعة من الأرض. كان بامكان القانون أن يسمح لحركة التعمير أن تسير في اتجاهين متوازيين ، اتجاه التعمير الطبيعي واتجاه التعمير الصناعي.
هناك مواقف قضائية مشرفة دعمت هذا الاتجاه ، حيث قضت محكمة النقض المصرية بأن ملكية الدولة للأرض ملكية سياسية فقط ؛ وبالتالي لا يمنع الأفراد من التملك عبر احياء الموات ، وهذا ما يتفق والشريعة العامة (القانون المدني) ، ولكن في السودان نجد أن القانون متناقض ، فهو من جهة يجيز احياء الموات كسبب من اسباب الملكية ويمنعه أيضا من جانب قوانين الأراضي التي تجعل ملكية الدولة ملكية حقيقية وكاملة ولا تتصرف فيها الا عبر المنفعة.
هذا التناقض أدى الى نزاعات خاصة بعد قيام الحكومة أخيرا بإزالة الحيازات ، على اعتبار أن الملكية الوحيدة المعتبرة قانونا هي المستندة الى شهادة بحث . هذا النزع جاء تهديدا لاعمار الأرض ، واحياء الموات ، والطبيعة الخاصة للتملك العقار الذي هو في الأصل تم بمجرد وضع اليد والحيازة الهادئة قبل تخطيط الدولة ، المهم أن إعادة ضبط الاتجاه القانوني أضحى واجبا فهل هو يتيح التملك عبر احياء الموات أم لا يتيح ذلك.
نزع الحيازات أدى أيضا الى تشريد المئات ، وخلق حالة قلق وتوتر بين المواطنين والحكومة ، وردع الباقين عن إحياء الأرض الميتة دون ترخيص من الحكومة ، وجعل منح الأرض من خلال الدولة آلة من آليات الفساد والافساد ، وظهرت عمليات التزوير في شهادات البحث وخلافه من مشاكل انتجها التضارب القانوني.
ملخص القول؛ أن القانون يجب أن يعمل على تشجيع إعمار الأرض ، وللدولة أن تخصص مساحات للتعمير الصناعي عبر التخطيط دون أن تصادر على حق الأفراد والجماعات في اختيار موطئ اقدامهم ماداموا داخل الإطار الاقليمي والسياسي والقانوني للدولة ؛ أي باعتبارهم مواطنين .
[email][email protected][/email]