التقارب الثقافي في مواجهة التطرف

د. فاطمة الصايغ
في العقود الماضية كانت منطقتنا في سباق مع الزمن لتعويض ما فاتها من تطور وانفتاح ثقافي على الآخر، عبر تأسيس وسائل اتصال وتواصل هادفة. كان أقصى أماني أهل المنطقة أن ينفتحوا على محيطهم العربي، ثقافيا واجتماعيا، وربما اقتصاديا لتعويض سنوات من الانغلاق الإجباري، الذى فرضه عليهم الاستعمار.
وفي ظل غياب وسائل الاتصال الحديثة، استخدم مثقفو المنطقة وسائل الاتصال التقليدية المتوفرة آنذاك. كان حلم مثقفي المنطقة في الاتصال دون قيود مع المثقفين العرب، وتبادل الأفكار والرؤى معهم. بل لطالما حلم تجار المنطقة، والذين هم في الواقع مثقفوها، في كسر تلك الحواجز المفروضة والاتصال بحرية مع جوارهم العربي.
وفي الواقع كانت هذه هي أمنية المواطن العربي ككل. فحرية التواصل، خاصة الثقافي، بين العواصم العربية دون قيود أو حواجز مصطنعة أمل ظل يراود المواطن العربي حتى عهد قريب، وظل هذا الوضع هو السائد مع الجوار العربي حتى حانت لحظة التغير.
الإمارات وجيرانها في الخليج شهدوا بداية صفحة جديدة في تاريخهم، ولحظات تاريخية حاسمة كتبوا فيها بداية عصر جديد، عصر الانفتاح وعصر التواصل مع الآخر خاصة العربي، اقتصاديا وثقافيا وحضاريا، فلم تبقَ عاصمة عربية مغلقة أمامهم، ولم تبق فكرة أو تيار عصي على التأثير فيهم أو عليهم، فهذا العصر لقب بعصر “التواصل والانفتاح الثقافي والإعلامي والمعلوماتي”.
فقد أصبح في مقدور الإنسان العادي أن يزور أي بلد دون الحاجة إلى مغادرة بلده، وأصبح في مقدوره أن يتعرف على كل ما يجري في العالم دون أدنى صعوبة. إنه عصر المعلومة السريعة والتواصل الثقافي بين البشر، بل هو عصر الانفتاح الإعلامي غير المقنن.
وبينما سادت في منطقتنا تلك الأجواء المشبعة بروح التفاؤل والانفتاح، والتواصل الإنساني الحر بين الأعراق المتعددة والعقائد المختلفة، ظهرت قوى ضبابية تدعو الناس إلى الانغلاق والعودة إلى روح القرن التاسع عشر وربما ما قبله، قوى انغلقت على نفسها وروجت للانغلاق مستلهمة تلك الروح، كما تدعي، من الدين.
واستطاعت تلك القوى أن تروج لأفكارها عن طريق التقنيات الحديثة ووسائل إعلام موالية لها، وظفتها لخدمة أغراضها. واستطاعت أن تكسب لها مؤيدين، وأن تزرع الفتنة والتفرقة بين الناس، وأن تقسمهم إلى معسكرات وتيارات متجاذبة كل منها يحارب الآخر، حتى بات التطرف متجذرا في جوهرها، واحتلت الدعوة للانغلاق ورفض الآخر حيزا كبيرا في فكرها، وبات تهميشها للآخر واضحا لا يقبل الشك.
ورغم وضوح تعاليم الدين الصحيح، إلا أن تلك القوى أصرت على تبني وجهة نظر أصولية متطرفة، دون النظر إلى أي اعتبارات دينية أو فكرية أو حتى إنسانية. لقد كانت تلك القوى تهيئ نفسها لقدوم عصر آخر لا يوجد إلا في مخيلتها، ولا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق استبعاد وتهميش كل من يخالفها الرأي.
ولكي تتضح الصورة أكثر، فقد بلورت تلك الجماعات خطابا إعلاميا ممنهجا، سار على نفس النهج محاولا بلورة صورة وردية، هي في الحقيقة محاولة لتجميل واقع مظلم، منغلق على نفسه ورافض للآخر. تصميم تلك القوى واضح على تسخير وسائل الإعلام لخدمة أهدافها واكتساب أرضية شعبية، ورغبتها في الاستفادة من التقدم التقني كبيرة، رغم رفضها لمن اخترع تلك الوسائل وطورها. فهي قوى قصيرة النظر، لا تمتلك رؤية بعيدة، ولا ترى أبعد مما تقع عليه عينها.
وفي ظل التقدم التقني الكبير والانفتاح الهائل وعدم القدرة على تقنين ذلك الانفتاح، استطاعت تلك القوى أن تكسب أرضية معينة، وأن تحارب الآخر بسلاح حديث ألا وهو سلاح الإعلام ووسائل التواصل الحديثة. والنجاح الذى حققته في هذا المجال، يرجع حقيقة إلى سطوة وتأثير تلك الوسائل، وليس إلى نجاحها في بلورة فكر مقنع واستراتيجيات مجتمعية منطقية وقابلة للتطبيق.
سياسيا، وجدت تلك القوى نفسها في مواجهة حاسمة وصراع عنيف مع السلطات القائمة. هذا الصراع خلف وراءه إفرازات سلبية عديدة وجراحا عميقة، أثرت على المشهدين السياسي والاجتماعي. ورغم تشابك خيوط ذلك المشهد وانعكاساته على المجتمع ككل، فإن تلك القوى تصر على سلامة فكرها واتساقه مع برنامجها السياسي.
وأنها بديل سياسي مناسب وصالح لكل الأوقات. هذا الوضع لم يخلق فقط بينها وبين الانظمة السياسية القائمة فجوة غير قابلة للتجسير، بل إن تلك التيارات قد خسرت معركتها اجتماعيا وثقافيا وحتى حضاريا.
فالمتابع للأحداث الجارية على الساحة الإقليمية والعربية، يلاحظ تسارع وتيرة الأحداث وارتباطها ببعضها، ثم سقوطها تماما كلعبة الدومينو التي ما أن تتهاوى قطعة حتى تلحقها القطع الأخرى، في اتساق عجيب وتتابع منظم. فالتيارات المتطرفة تجد نفسها يوما بعد يوم في مواجهة ليس فقط مع السلطة، ولكن أيضا مع نفسها ومع المبادئ والقيم التي تدعي أنها تسير عليها. وفي الواقع فإن السلاح الإعلامي الذى استخدمته للترويج لنفسها، هو ذاته الذي أظهر عجزها وفشلها.
إن تسارع وتيرة المشهد السياسي العربي الحالي وتتابع أحداثه، من المؤكد هو لغير صالح تلك التيارات. وبالإضافة إلى ذلك فعدم امتلاك تلك القوى لرؤية تنموية واضحة أو برامج اقتصادية منطقية، جعلها تفقد تدريجيا الأرضية الشعبية التي كانت تستند إليها وتدعمها.. وهذا في حد ذاته فشل ذريع يسجل لها.
[email][email protected][/email]
البيان