مقالات وآراء

سقطت الإنقاذ أم تكررت التجربة! (2)

محمد التجاني عمر قش
تناولت الحلقة السابقة طريقة نظرتنا إلى فترات الحكم المتعاقبة في السودان، منذ المهدية وحتى الحاضر، من منظور تاريخي واستقرائي وتحليلي، وذلك بتتبع الوقائع عن كثب، ومقارنة العوامل ذات الصلة، وتفحصها ودراستها بعناية، بهدف الوصول إلى أحكام عامة، والخلوص إلى نتائج واقعية بحيث تكون صالحة للإسهام في حل مشكلة تعثر التجربة السياسية في السودان، وتفادي الإخفاق مستقبلاً. وأود التأكيد أن الهدف من هذه السلسلة هو تسليط الضوء على القواسم المشتركة في تجربتنا السياسة بشكل عام، وليس القصد هو كشف المستور أو الحديث عن المسكوت عنه في تاريخ السودان القريب أو حتى المعاصر.
في هذا الصدد يقول أحد الكتّاب: “في سياق البحث عن مخرج للسودان من حالة عدم الاستقرار السياسي المزمنة، وسعياً لتأسيس حكم ديمقراطي قابل للاستمرار والتطور، لا بد من تغيير جذري في الأفكار والمفاهيم. ومثل هذا التغيير بالضرورة سوف يسفر عن منهج جديد في تحليل وتقييم المحطات المفصلية في تاريخ السودان السياسي؛ حتى يكون العمل للمستقبل مسترشداً بدروس التاريخ، مما يجنب البلاد تكرار الأخطاء التاريخية ومن ثم إعادة إنتاج الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية”.
وبما أننا قد حددنا فترة زمنية للنقاش، إن صح التعبير، سوف نقارن في هذه الحلقة بين فترتي المهدية والإنقاذ؛ نظراً للتشابه الكبير بينهما من عدة أوجه، في مقاربة سريعة تبين مدى تأثر الأخيرة بتلك الفترة السابقة، من حيث الإطار الفكري، والشعارات، والممارسة الواقعية، والكتل الاجتماعية التي افرزتها كل منهما والانعكاسات على وقاع الحياة العامة. فمن حيث الفكر، ظهرت المهدية في وقت كان الناس يتطلعون فيه لظهور المهدي المنتظر، حسب الفكر الصوفي، الذي ينتشر في كافة بقاع السودان، فقد وجدت فكرة المهدي المنتظر طريقها إلى أهم الطرق الصوفية في البلاد؛ خاصة الختمية والإسماعلية والقادرية والسمانية التي تربى المهدي ودرس في معقلها في أم مرحي علي يد الأستاذ محمد شريف نور الدائم. يقول الدكتور محمد سعيد القدّال في كتابه عن تاريخ السودان الحديث (شهدت السنوات الأخيرة من الحكم التركي –المصري انتشار فكرة المهدي المنتظر بين قطاعات عريضة من الناس، واختلط التراث الإسلامي بالموروث الشعبي والخرافة؛ لتعطي المهدي المنتظر مساحة واسعة وقامة فارعة في الخيال الشعبي، وحضوراً وارهاصات لا تخطئ العين رؤيتها في أفق الترقب والأمل_ صفحة 161). ولذلك كانت هنالك عاطفة دينية قوية نتيجة لتلك الأشواق لظهور من يجدد الدين ويملأ الأرض عدلاً ويبسط الأمن؛ وتبعاً لذلك وجدت المهدية قبولاً منقطع النظير وتأييداً بلغ حد التهور أو الهوس في بعض الحالات!
وفي المقابل، خرجت الإنقاذ من رحم ما يعرف بالصحوة الإسلامية، التي سادت في العالمين العربي والإسلامي، في سبعينات القرن الماضي، وأوائل الثمانينات؛ خاصة بعد حرب أفغانستان وظهور الحركات الجهادية المرتبطة عموماً بالفكر الإسلامي بكل مشاربه، وتحديداً بما يعرف بالإسلام السياسي منها، أي حركة الإخوان المسلمين. ووفقاً لهذا نستطيع القول بأن كلاً من المهدية والإنقاذ قامتا على أساس دعوة دينية وصولاً إلى السلطة! ومن هذا المنطلق رفعت المهدية شعار “في شان الله” وسارت على دربها الإنقاذ بترديد شعار “هي لله لا للسلطة ولا للجاه” دون التزام واضح لأي منهما بهذا الشعار.
في معرض حديثه عن المهدية، وعلى وجه الخصوص بعد تولي الخليفة عبد الله مقاليد الحكم، يقول البروفسور هولت: “خلال عام واحد بعد وفاة المهدي، لم يبق من عمال الولايات وقواد الجيش الذين عينهم إلا أثنين هما عثمان دقنه، وعامل المهدي في بحر الغزال، فقد استبدل الخليفة كل أولئك برجال من أقربائه والموالين له، بيد أن معظم هؤلاء كان من الأميين البسطاء الذين أطلق عليهم الناس تهكماً عبارة “أسيادنا التعايشة”، تاريخ السودان -صفحة 74). وأنشأ الخليفة تشكيلات عسكرية عرفت بالجهادية، جلهم من السود والأعراب، وأسند قيادتهم لبعض أفراد قبيلته، الذين طلب منهم الهجرة إلى أم درمان؛ من أجل توفير الحماية العسكرية، الأمر الذي أدى إلى انقسام المجتمع إلى طائفتين: هما أولاد الغرب والجلابة، ولا يزال السودان يدفع ثمن هذا الموقف الأخرق!
أما الإنقاذ فقد أوجدت تجربتها ما يسميه الدكتور عبد اللطيف سعيد “التحالف أو التضامن النيلي” وهو ليس مصفوفة قبلية صارمة، لكنه عبارة عن جماعات تختلف عنصراً، ولكنها تتحد موقعا جغرافياً، وتجمع بينها مصالح مشتركة جعلتها تتقاسم كعكة السلطة وتسيطر على المواقع المهمة ومفاصل الحكم طوال فترة الإنقاذ؛ خاصة في المجالات الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية والسياسية والدبلوماسية وغيرها من الوظائف ذات الطبيعة الدستورية والقيادية المرموقة. علاوة على ذلك عمدت الإنقاذ إلى تكوين مليشيات بمسميات متعددة، وإقصاء كافة الكوادر المؤهلة في جميع مرافق الدولة، سواء في ذلك الخدمة المدنية والعسكرية والأمنية، واستبدلتهم بالموالين لها دون النظر للكفاءة، وكان للتضامن النيلي القدح المعلى من ذلك!
هذا الاصطفاف، غير المقبول، في الحالتين، حال دون اكتمال مفهوم المواطنة وبناء الدولة وتحديد الهوية، وولد غبناً لدى قطاعات واسعة من أبناء الوطن.
محمد التجاني عمر قش
[email protected]

تعليق واحد

  1. لقد أنصفت الرأي في هذا المقال وإن كنا لا نقبل المقارنة بين نظام الأنجاس المدحور وأي نظام حكم سابق. فما سبق لعصبة لصوص أن حكمت البلاد وفعلت ما فعلوه فلا وجه لأي مقارنة بينهم وبين الذين حكموا من قبل. نعم المهدية اتخذت العاطفة الدينية سبيلا إلى السلطة والحكم ولكن الفرق في مثل هذه المقارنة هو في الإجابة على سؤال ماذا كان الهدف من الوصول للسلطة والحكم ولا أظنك سألت نفسك يا قش هذا السؤال! فقادة المهدية ظلوا دراويشا مؤمنين بالمهدية رغم إدعائها الكاذب وربما الدراويش لا يعلمون ولم يكن هدفهم من مناصرتها بحال لدنيا يصيبونها ويثروا فيها على نحو ما فعل اللصوص الأنجاس، فقد كان هدفهم طرد الاستعمار التركي البريطاني علاوة على التمكين لدعوتهم للمهدية في العالم رغم زيفها وهم قد لا يعلمون بذلك وبالتالي فإن الفرق الآخر بينهم وبين الأنجاس أنهم ربما لم يكونوا منافقين كجماعتك المنافقين الذين كانوا يفعلون كل شيء بعكس ما كانوا يعلنون ويهتفون به ولو كان هتافا بشعارات دينية قاتلهم الله من منافقين مدغمسين أساؤوا إلى الدين قبل إساءتهم للمسلمين وغير المسلمين!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..