البرجوازية الصغيرة-الصفوة: نهج عبد الخالق محجوب

إذا أردنا أن نمسك حقاً بسبب الهرج ضارب الأطناب في بلدنا وجب علينا أن ننمي تقليداً نقدياً لفئة البرجوازية الصغيرة المدينية المتعلمة أفضل مما هو متاح لنا. وهو علم كتب دروسه الباكرة أستاذنا عبد الخالق محجوب ثم أندرس. فما زلنا نسميها الصفوة ونشق الجيوب لخذلانها لنا بمنطق أنها مستودع علم نافع ضلَّ وإرادة للخير تهافتت أو ريادة نكصت على عقبها. وهذا نقد يفترض أن ضلال الصفوة المزعومة مجرد عثرة ستفيق منها، وإن طال الزمن، متى أحسنا ال “حوار مع الصفوة”. وهذا افتراض كاذب اقتضانا انتظاراً طويلاً عقيماً لعودة الصفوة المزعومة إلى طريق الرشد والهداية.

الصفوة المزعومة طبقة اجتماعية قائمة بذاتها كانت معروفة ب “الأفندية” أيام العز والجعاصة. ولها ككل طبقة اجتماعية صفوتها أو صفواتها. وصفوة الطبقة هي “أركانحربها” الفكري التي تشيع وجهة نظرها في المعاش والمعاد بين الناس وتغريهم بصواب طبقتها وتقبل صدارتها في المجتمع بأشكال تتراوح من التعبير السياسي المباشر حتى خلجات الإبداع الروائي والسينمائي والتشكيلي. ولا نقول “تشيع” هنا بمعنى البروبقندا فحسب لأنه قد يكون من بين تلك التعبيرات ما قد يقسو على الطبقة المخصوصة ويكاشفها بعللها حتى تسقيم على جادة مصالحها الحقة وتسلم من الشطط الذي قد ينفر الناس من قيادتها لمجتمعهم.

كان للبرجوازية الصغيرة الأفندية حداتها خلال الحركة الوطنية من أمثال الشاعر علي نور. كما كان للافندية البرجوازية الصغيرة نقدتها الباكرين من مثل الأستاذ محمود محمد طه الذي اعتزلها وغادر مؤتمرها للخريجين بعد أن نعى عليهم فقرهم للمنهجية. وخاصة حين تفرق هؤلاء الخريجون شيعاً لائذين بالطوائف الدينية السياسية التي كانت في نظر الأستاذ مؤسسات متخلفة عن ركب الدين وركب الحياة. بل خرجت صفوات راديكالية أخرى من الأحزاب الاتحادية خاصة وأسست الحزب الشيوعي طمعاً في تحالف من نوع جديد مع الحركة الوطنية العمالية التي شقت عصا الطاعة على المستعمرين. وكان بينهم الأساتذة حسن سلامة وحسن الطاهر زروق وحسن أبو جبل ممن صاروا شيوعيين. ومنهم الأستاذ أحمد خير الذي مال إلى اليسار بغير انضمام لحزبه كما يشهد كتابه “كفاح جيل”.

لم نحسن في اليسار معرفة البرجوازية الصغيرة كفئة اجتماعية ذات موقع معلوم في عملية الانتاج برغم تحسبنا من شرورها على حزبنا الشيوعي من مثل الذبذبة والتهريج والعجلة والمغامرة التي يعقبها التهافت واليأس والزهادة في القضية. وربما كان سر ملكة أستاذنا عبد الخالق القيادية العالية هي علمه الدقيق الفصيح بهذه الطبقة. ومن أراد الوقوف على هذه الملكة فليقرأ تقويمه لانقلاب 25 مايو المقدم إلى مؤتمر الكادر الشيوعي الإستثنائي في أغسطس 1970. وفيه أمسك بطموح هذه الطبقة السياسي الذي توسلت فيه إلى الحكم بالعنف واستولت عليه بالانقلاب. وفيه أعاد قوله إن الانقلاب هو تكتيك البرجوازية والبرجوازية الصغيرة خلال مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. وهو تكتيك على النقيض من منهج الطبقة العاملة وحلفائها الداعي إلى مراكمة القوى والصبر في المنشط والمكره بالدعوة إلى سبيل المجتمع الجديد بالموعظة الحسنة. ومن أسف أن هذه الطبقة وحيلها قد غابت عن رادار الحزب الشيوعي منذ وفاة الرجل.

وسنجدد معرفتنا بهذه البرجوازية الصغيرة المدينية متى وقفنا نتفحص خصائصها السودانية بصورة عميقة. فقد سبق لنا تعريفها على ضوء ما بلغنا عنها في الغرب الرأسمالي. فقلنا عنها إنها طبقة بينية، بين بين، في المجتمعات التي تهيمن على اقتصادها وسياستها طبقة البرجوازية. فهي بين طبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج وبين الطبقة العاملة التي تبيع قوة عملها للبرجوازيين. وهي طبقة تعبر عن وعيها بذاتها بلغة مأخوذة من مصطلح الطبقة البرجوازية أي أنها تقبل النظام الرأسمالي ومنطقة لا تريد لسنته تبديلا. بل لا يطمع الواحد منهم في تحسن فرصه ومعاشه بغير أن يصبح مالكاً كالبرجوازيين. ومتي استقر المجتمع الرأسمالي على وتيرته تميزت البرجوازية الصغيرة بثقافة خاصة بها وعوالم من خيال وحقائق.

وبالطبع فإن لهذه الفئة الاجتماعية خصائص سودانية مع احتفاظها بما يجمعها بهذه الطبقة في مجتمعات أخرى. فقد تَخَلَّقت في بلادنا في ظل الاستعمار. فهي لم تخرج من معطف برجوازية وطنية أكملت الثورة الليبرالية بإزاحة الإقطاع من سدة الوجاهة السياسية والاجتماعية ولملمة شعث الأمة في سوق وطني عظيم. فهي لم تنشأ لتخدم مثل هذه البرجوازية الغراء التقدمية ببيع قوة عملها الذهني (في السلك الكتابي والترجمة والهندسة وغيرها). فقد ولدت هذه الطبقة الأفندية البرجوازية لتخدم طبقة أجنبية مستعمرة في الوظائف الدنيا التي تعفف الاستعمار دون أن يأتي ببني جنسه لملأها. وعلمها المستعمرون علماً سماه “التجهيزي”. ومعنى ذلك أنه اقتصر (ولربما لا يزال) على تزويد التلاميذ بمعرفة هي عبارة عن حرف ومهارات يؤدي بها الموظف المهمة المخصوصة فقط لا غير. وقد كان بعض احتجاج طلاب غردون أن الإنجليز حرموهم من المعرفة التي هي أوسع من الحرفة. وقد وجدت السيد رالف نادر، المثقف الأمريكي باصوله العربية المعروف، يفرق بين “التربية” (education) و”التلقين” (instruction). وكان نصيب طلبة غردون من العلم هو التلقين في حرف لا يتعدونها إلى سقف الثقافة الأرحب.

جاء ميلاد هذه الطبقة الأفندية الجديدة بينياً (بين بين ) بصورة مركبة. فهي بين جمهرة الناس من الأهالي من جنسها وبين والاستعمار الذي أنشأها أول مرة. وهو استعمار هجين: إنجليزي مهيمن حتى على المصريين الذين شاركوه حكم “السودان الإنجليزي المصري”. وله ثقافة مختلفة عن الأفندية في دينها وتراثها الآخر. وشاركت مصر في استعمارنا كما هو معروف وكانت الطرف الضعيف. ولكن حقها الدستوري على السودان جعلها مما تتطلع له افئدة الأفندية في طلبهم للاستقلال. كما نذكر عرضاً أن الأفندية احتجوا دائماً على سيطرة الجاليات الأجنبية (الملحقة بالاستعمار) على السوق: “طغى ابن اثينا واستكبر الأرمني” كما قال التيجاني يوسف بشير.

وهناك منشأ آخر للتعقيد. فهذه الطبقة البرجوازية الصغيرة المدينية وجدت أن من فوقها طبقة سادة طوائف لهم زمام الأمر بين الناس. وتداخل بهذه الطبقة، التي توارثت السيادة، برجوازية تجارية رهنت مصيرها السياسي بهؤلاء السادة إلى حد كبير. وتخلقت من هذه الحلف الطائفي التجاري الصميم طبقة قابضة لم يستحسنها الأفندية وإن اضطرهم ضعفهم وحاجات ثانية للتمسح بأذيالها لأزمان طويلة. ووصف الدكتور محمد هاشم هذه الطبقة القابضة التي سدت أفق الأفندية ب “البلوتكرسي” في كتابه عن الحكم واستغلال النفوذ الذي نشره في آخر الستينات وأسدل عليه الهرج، الذي بدأ في 1969،ستار النسيان.

وفي حديثنا القادم نقف على “ثقافة” هذه الطبقة التي استدبرت أهلها ولم تستقبل شيئا. وعاشت في ضلال مبين وشره عظيم لإطفائها مصباح المعرفة بأفواهها.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. من أكبر معوقات التنمية الريادات الوطنية غير الواعية.نحن في زمن إنهيار الطرح القومي وإنهيار المنظومه الشيوعية و ورطة الطهرانية الدينية. نخب السودان تخوم لعالم عربي مريض يرفض العبور عبر الممرات الإلزامية. نخب تعاني من تشنج صدمة الحداثة وأدمنت تعاطي أفيون المثقفين كما إنتقد ريموند ارون الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي الشيوعية كنظام شمولي بغيض لا يقل بشاعة عن الفاشية والنازية وكما تنبأت حنا أرندت بمجيء يوم ستحاكم فيه البشرية فظاعات الشيوعية التي جسدتها رواية أرخبيل الغولاغ.
    العالم اليوم يتخلق ليولد من جديد والسودان جزء من العالم ولابد من الإستفادة من تراث الإنسانية بعد ما ادمنت نخب السودان الفشل حسب قول منصور خالد وبعد ما تمكن منها مرض النخب الثقافية كما قال إدوارد سعيد في كتابه لنزعة الإنسية.
    اليوم السودان يعاني من الكهنوت السياسي والكهنوت الإجتماعي والكهنوت الإقتصادي بسبب طرح الطهرانية الدينية المهيمنة من قبل ربع قرن. نريد طرح منفتح على العالم إدوارد سعيد لم تستعدل أفكاره إلا في كتابه الإخير بعد أن رجع الى النزعة الإنسانية.ولا أظن أن الشيوعية تأتي بنظام غير الشمولية وزمان الشموليات قد قضى ومضى. نحن في زمن الناخب الرشيد والمستهلك الرشيد ورئيس مساءل أمام الشعب أعني لا خير في شمولية الكيزان لا شمولية الشيوعيين. بإختصار قدر الإنسان الحريةكما يقول سعد الله ونوس.

  2. شكرا يا برف علي هذا التنوير وازالة كثيرا من اللبس والفهم عن مصطلحات (شقتنا شق بالحنك)وشقيينا كما تري بهرجها ومرجها …الاجيال الحالية في حاجة لهذا وبكثافة من البوار الذي تعيشه علنا مع دفوع احري نستنشق عبيرا عبر كوه صغيرة تصير نفاجا لفرج قادم !!!وشكرا

  3. البلوتوكراسي Plutocracy تعني حكومة الأغنياءو اي البلد الذي يدار بواسطة الأغنياء. لكن هل كان مجتمعنا السوداني غنياً في ذلك الوقت الذي تتحدث عنه؟
    لقد كان الحكم في يد الإنجليز و الأمر و النهي بيدهم. و لم تعرف بلادنا طبقة ذات ثراء و قادرة علي فرض نفسها إلا بعد أن عمل نظام مايو علي تأميم و فك إحتكار التجارة الخارجية و إتاحة الفرصة لأبناء البلد ليدخلوا هذا المجال. و لنسأل كم كان عدد أبناء البلد من التجار الذين يعملون في مجال الإستيراد و التصدير قبل عام 1970م؟ لم يكن يزيد عددهم عن خمسة أشخاص علي أكثر تقدير, هم عثمان صالح … أبو العلا…البريرو آخرين.
    لقد أحدث إنقلاب مايو تحولاً هائلاً في المفاهيم و في نظرة الناس للحياة و كيف يتعاملون و منه خرافة ما سموه البرجوازية الصغيرة.

  4. ويا ليتك يا دكتور بعد ان تفرغ من جلدك للطبقة التي كنت تنتمي لها ذات يوم , وبعد أن تفرغ من أحقادك علي (( الشيوعيين )) , وبعد أن ترمي كل السهام التي في جعبتك !! يا ليتك تكون منصفا لمرة واحدة في حياتك وتذكر (( الإيجابيات )) – ويا ليتك ( ولا أظن أنك ستفعل !!!؟؟؟) أن تسن قلمك وتعبئ كنانتك وتشحذ سيوفك وتهز رماحك علي ((( الطبقة العربوية الاسلاموية ))) والتي تحكم وتتحكم منذ ألف عام ويزيد وهي أس البلاء ومنبت الشقاء وسبب كل البلاوى والخيبات والفشل المعشعش والمستمر منذ أربعة عشر قرن !!! ثم بعد ذلك توزن بينهما بالعدل والإنصاف ( ولا أظن أنك ستفعل !!!؟؟؟) ليستبين الحق وتبرئ ذمتك ( علي الأقل أمام نفسك ) ؟؟؟!!! .

  5. سيبدأ هذا الموتور الهجوم على من يدعي أنه استاذه، عبد الخالق محجوب بعد أن خلص من الهجوم على الشيوعيين. “الشيوعي حين يسقط يسقط عوديا وإلى القاع” وليس بعد القاع قاع

  6. وسيظل الشهيد الأستاذ عبد الخالق محجوب قامة سامقة ونخلة طويلة ضاربة جذورها في تراب الوطن مهما رماها أمثالك بالحجارة ! لا ولم ولن تطاله – وهو في عليائه يبتسم ويسخر من الأقزام أمثالك يا عبد الله علي ابراهيم , عاش وناضل ومات في وطنه , أما أنت فابحث لك عن قبر في مسيوري / الولايات المتحدة الأمريكية .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..