ضروب الإقصاء ومطالب المواطنة: حديث مستأنف حول إشكالات بقاء الدولة السودانية

ضروب الإقصاء ومطالب المواطنة: حديث مستأنف حول إشكالات بقاء الدولة السودانية
د. عبدالوهاب الأفندي
ابتدرنا في الأسبوع قبل الماضي الحديث عن إشكاليات المواطنة السودانية مقارنة مع الإشكالات المقاربة في الدول المتعددة الثقافات. وخلصنا إلى أن مفهوم المواطنة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الديمقراطية باعتبارها حكم الشعب لنفسه. ففي كل النظم غير الديمقراطية، هناك طبقة حاكمة تمارس السيادة على بقية أهل البلاد الذين لا يرتفعون بهذا السبب عن مقام الرعية. ففي الدول الملكية، تنحصر السيادة في الأسرة المالكة، وفي النظم الاستبدادية تكون للحاكم الفرد، وفي الأوليغارشية، تكون السلطة للأقلية الحاكمة، وفي الأرستقراطية يكون الأمر لطبقة النبلاء، وهكذا. أما الديمقراطية فهي النظام الوحيد الذي يكون فيه كل المواطنين (نظرياً على الأقل) أعضاء في الطبقة الحاكمة، ومتساوين في المواطنة. وعليه فإن أي سلطة فعلية تنفيذية أو تشريعية تكون خاضعة لسلطان جماعة المواطنين، وخادمة لهم لا سيدة عليهم. ولا بد أن تبرر هذه السلطة كل أعمالها للشعب، وتكون خاضعة للمساءلة أمامه، وبالتالي للخلع والإبعاد إذا لم يرض عنها الشعب. وهذا هو مقتضى مقولة حكم الشعب لنفسه.
من هنا فإن مفهوم المواطنة لا قوام له خارج مفهوم الديمقراطية، ولا تعريف له إلا بالاستناد إلى الفكر الديمقراطي. إلا أن الإقصاء الاستبدادي ليس هو النوع الوحيد من أنواع الإقصاء. فقد ظلت الديمقراطيات تمارس الإقصاء في حق طائفة من رعاياها، بما في ذلك الولايات المتحدة التي تدعي أنها قامت على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها ظلت تحرم جل سكانها من حقوق المواطنة حتى مراحل متأخرة من تاريخها، وخاصة النساء والسكان الأصليين والأفارقة الأمريكيين وبعض فئات الآسيويين، وعلى رأسهم الصينيون ومهاجرو أمريكا اللاتينية. وقد أصدرت المحكمة العليا حكماً شهيراً عام 1857 في قضية المدعو دريد سكوت، جاء في نصه أن الأفارقة الذين جلبوا إلى أمريكا كأرقاء وذرياتهم غير مشمولين بالحماية الدستورية، ولا يمكن لهم أبداً أن يمنحوا المواطنة الأمريكية أو أن يلجأوا للمحاكم العليا طلباً للإنصاف.
ورغم أن التعديل الدستوري الرابع عشر الذي صدر في عام 1868 سعى بصورة غير مباشرة إلى تجاوز منطوق هذا الحكم عبر إلزام الولايات بمعاملة كل المقيمين فيها على قدم المساواة، إلا أن التمييز ضد السود، بما في ذلك التمييز المقنن عبر الفصل العنصري في المدارس والمكاتب والمرافق العامة، ظل حقيقة ماثلة حتى قيام حركة الحقوق المدنية في الستينات. ولعل الملفت في الأمر أن بعض القيادات الأمريكية التي اشتهرت بدفاعها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان حول العالم، وعلى رأسهم الرئيس وودرو ويلسون، كانوا من أبرز مؤيدي التمييز والفصل العنصري. بل إن الفصل العنصري بدأ يأخذ طابعه الرسمي في عهد ويلسون.
وفي بعض الأحيان، فإن العملية الديمقراطية نفسها قد تجنح نحو تأييد الإقصاء، خاصة إذا كانت هناك قطاعات مهمة من الناخبين ذات توجهات إقصائية. ففي الحالة الأمريكية، فإن الرئيس ويلسون كان أول رئيس أمريكي يأتي من الجنوب بعد هزيمة الجنوبيين في الحرب الأهلية. وكان الناخبون الجنوبيون في غالبيتهم ذوي توجهات عنصرية، فكان كسب أصواتهم يتطلب أن تستجيب الحكومة لتوجهاتهم. بنفس القدر فإن التحول الديمقراطي في بلدان مثل يوغسلافيا وساحل العاج وبلدان أخرى نتج عنه صعود تيارات قومية ذات توجه شوفيني إقصائي، مما أدى إلى تفجر حروب أهلية في تلك الدول. في إسرائيل أيضاً نجد أن النظام الانتخابي هناك يؤيد صعود الأحزاب المتطرفة التي تؤيد الإقصاء العنصري وتبث الكراهية ضد طائفة من موطني الدولة. ونشاهد تطوارت مماثلة في دول أوروبية مثل النمسا وهولندا والدنمارك، وحتى في الولايات المتحدة مؤخراً مع صعود التيار اليميني المتشدد المسمى بتيار ‘حفلات الشاي’.
ولعل المستغرب هو أن بعض المعارضين للحكومة السودانية وعددا من مسؤولي حكومة الجنوب قد عبروا في الاونة الأخيرة عن استعدادهم للتعامل مع إسرائيل، حيث قال قائلهم: ما المشكلة في التعامل مع إسرائيل وهناك دول كثيرة تتعامل معها؟ والإجابة هي أنه لو كان البعض لا يرى مشكلة في التعاون مع دول تتبع سياسات عنصرية إقصائية مثل حكومة جنوب افريقيا العنصرية سابقاً وإسرائيل حالياً، فلماذا يثور هؤلاء على الحكومة السودانية لاتهامها بممارسات مماثلة؟ فالأقربون أولى بالمعروف.
هناك إشكالات أخرى واجهت الفكر الديمقراطي والممارسة المستندة إليه في تنزيل مبادئ الديمقراطية على أرض الواقع. فمن جهة افترض هذا الفكر أن المواطنين يدخلون ساحة العمل العام أفراداً مجردين من كل صفة مميزة سوى صفة المواطنة، وتغافل عمداً عن حقائق وجود التكتلات وواقع خلفيات المواطنين الثقافية والعرقية والدينية وخصوصياتهم المتفردة. ومن جهة أخرى اعتمدت معظم الديمقراطيات آلية الانتخاب وسيادة خيارات الاغلبية. وكلا هذين الأمرين يخلق إشكالات عدة.
فيما يتعلق بالهوية الفردية فإن الواقع يؤكد أن الأفراد يمارسون السياسة في كتل وجماعات، لا أفراداً. فمصالح أو رؤى طبقات أو فئات بعينها قد لا تتطابق مع رؤى ومصالح أخرى، بل قد تتضارب معها. وهذا بدوره أدى إلى خلق آليات للدفاع عن مصالح كل فئة. فهناك النقابات للدفاع عن حق العاملين، وتكتلات أصحاب العمل لغرض مماثل ومقابل، والأحزاب للتعبير عن آراء وتوجهات الفئات، والتكتلات العرقية والجهوية للدفاع عن مصالح كل فئة.
وفي العقود الأخيرة، سعت الديمقراطيات الكبرى إلى معالجة هذه القضايا، وذلك عبر انتهاج سياسة الاعتراف بالمجموعات المهمشة، وإعطاء اعتبار خاص للمرأة والأقليات الدينية والعرقية، وممارسة ما يسمى بالتمييز الإيجابي لصالح الفئات التي عانت من الإقصاء في السابق، وتعويض بعض الفئات، مثل سكان البلاد الاصليين في استراليا وكندا والأمريكيتين، والاعتذار لهم عن الممارسات السابقة التي اقتربت من الإبادة الجماعية. والطريف أن هذه السياسات (التي اتخذت مسمى ‘التعددية الثقافية’) أصبحت تتراجع في الآونة الأخيرة، وتواجه هجمة شرسة من القوى المحافظة، وحتى من بعض الليبراليين واليساريين، خاصة حين يتعلق الأمر بالجاليات المسلمة (أو السود في أمريكا). فيرى المحافظون أن سياسة التمييز الإيجابي قد ذهبت أبعد من اللازم، وأصبحت الآن تكرس عدم المساواة. أما اليساريون فيرفضون التعامل مع الهويات الثقافية من الأساس، ويرون فيها محاولات من القوى المهيمنة للتلبيس على مشكلة الاستقطاب الطبقي.
إذا طبقنا هذا على الحالة السودانية، فالثابت هو أن الدولة السودانية لم تمارس عملياً الإقصاء المقنن. فالقوانين السودانية ودساتير السودان ظلت تنص منذ البداية على المساواة التامة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. ونظرياً فإن المؤسسات التعليمية ووظائف الدولة مفتوحة لكل المواطنين على قدم المساواة، مع عدم وضع أي اعتبار إلا للكفاءة والمؤهلات الفردية. ولكن هذه السياسة تحديداً هي المشكلة. فالمساواة النظرية قد تؤدي إلى تمييز عملي، كما حدث في أمريكا وغيرها حين استخدمت معايير متساوية للقبول في الجامعات والتوظيف للفئات التي تمتعت بامتيازات لقرون طويلة، وتلك التي حرمت من كل شيء.
وقد تفجرت أول أزمة سياسية كبرى في السودان تحديداً حين وزعت الوظائف الكبرى في الدولة في الفترة الانتقالية بين الاستعمار والاستقلال بالنظر فقط إلى المؤهلات الأكاديمية والخبرة، بدون مراعاة لواقع أن توزيع المدارس والمؤسسات التعليمية لم يكن عادلاً. ورغم أن هذه لم تكن مسؤولية النخبة السودانية التي قادت البلاد إلى الاستقلال، إلا أن تعاملها مع ذلك الواقع أدى إلى تفاقم المشكلة. فمن جهة كانت تلك النخبة تشارك مثيلاتها في جل دول افريقيا توجسها من مطالب الأقليات، وتؤمن بأن التقسيمات العرقية والإقليمية صنيعة الاستعمار. وقد كان كل قادة افريقيا يفضلون النموذج الفرنسي في أحادية الدولة، وعد الاعتراف بالتعددية أو مطالب الحكم الذاتي للإقليمي، خشية من أي يؤدي ذلك إلى تفتت الدولة وضياع الهوية القومية.
النتيجة المنطقية لهذه التوجهات كان تبني سياسة الحزب الواحد وقمع التعددية الحزبية بدعوى محاربة الاستقطاب الديني والعرقي، وهو ما حدث في كل دول افريقيا تقريباً في الحقبة بين الاستقلال في الخمسينات والستينات وبداية التسعينات. وكان نتاج ذلك بنفس الدرجة تعميق الانقسامات وتفجر الحروب الأهلية، ومزيد من تدهور الأوضاع في القارة. وفي الحالة السودانية فإن النخبة تعاملت مع مطالب الأقاليم بنفس التوجس والفوقية، حيث رفضت المطلب الجنوبي لتأسيس نظام فدرالي، وتجاهلت مطالب الشرق والغرب حول التنمية المتوازنة. وعندما اندلعت الاحتجاجات العنيفة والسلمية في الأقاليم، زاد التوجس تجاه مواطني هذه المناطق، وبالتالي التمييز ضدهم. على سبيل المثال أصبح المواطن الجنوبي متهماً بالتعاطف مع التمرد، وأصبح من الصعب أن يحصل على وظيفة في المستويات العليا من الجيش والشرطة أو الإدارات الحكومية. وبنفس القدر فإن اندلاع الحرب في الجنوب (ثم بعد ذلك في الشرق ودارفور) أدى إلى تعثر التنمية وإغلاق المدارس ونزوح مئات الآلاف، مما ترتب عليه حرمان من الخدمات الأساسية، وضياع فرص أجيال بكاملها في التقدم الاجتماعي.
من هنا يتضح أنه في التعامل مع الأزمة السودانية الحالية فإن مجرد التحول الديمقراطي بصورته التقليدية لن يكون كافياً. وقد أثبتت التجربة ذلك، حيث اندلعت الحرب الأهلية في بدايات الديمقراطية الأولى، واستمرت بغير توقف وزادت حدتها في العهد الديمقراطي الثاني. وقد شهد العهد الديمقراطي الثالث استمرار الحرب الأهلية التي اندلعت في العهد الدكتاتوري السابق، وزاد اشتعالها أيضاً. ولا ينبغي أن يعتبر هذا قدحاً في الديمقراطية، لأنه في واقع الأمر ليس هناك بديل عن الديمقراطية، وإنما المطلوب هو تطوير الممارسة الديمقراطية والتنظير الديمقراطي حتى تستجيب لطبيعة المطالب الشعبية وتتعامل بعدالة وواقعية مع الأوضاع السائدة.
لقد تطور الفكر الديمقراطي والممارسة الديمقراطية معاً، استفادة من تجارب الماضي واتعاظاً بالممارسات الخاطئة، وتوسعاً في أفق البشر. فالديمقراطية لا تقوم اليوم على مجرد إثبات الغلبة العددية للأكثرية، وإنما تحدد رغبة الأغلبية بضوابط أخلاقية ومبادئ مشتركة عبر آليات دستورية تضمن حقوق الأفراد والأقليات بدون إجحاف بخيارات الأغلبية. ومثل هذه التوازنات تتحقق عبر الحوار كما تتحقق عبر الصراع. وأهمية الديمقراطية هي أنها تتيح المجال للصراع السلمي وتغني بذلك عن تفجر النزاعات المسلحة. أما الأسلوب الذي اتبع في السودان وكثير من دول المنطقة فقد سعى إلى التعامي عن الخلافات، لا حلها، وكبت المطالب لا الاستجابة لها، وخلق الوهم بعدم وجود خلافات، مع استغلال هذه الخلافات كأداة لحسم الصراعات.
ولكن هذا الأمر لن يتحقق إلا بتوافق بين القيادات السياسية على اعتماد الديمقراطية منهجاً، والتعهد بعدم استخدام العنف أو القهر أداة لتحقيق الأغراض السياسية، مع توافق على الاحترام المتبادل لكل الخيارات السياسية وكل الهويات السياسية التي يتشكل منها الوطن. إذن لا بد من الدخول بدون تأخير في مثل هذا الحوار، وإذا كان هناك قدر من النضال السلمي المطلوب للضغط على كل الأطراف للسماح به والمشاركة فيه، فعلى القوى الحية في المجتمع أن تبادر بمثل هذا النضال.
‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
القدس العربي
الـــصــــــــــــالــح الـــــعــــــام
بلغ عدد جحافل المفصولين في تلك المذبحة أكثر من ( 200 ) ألف مواطـن سـوداني «بحسب زميلنا السر سيد أحمد/الشرق الأوسط 19/5/2001 بلغ عددهم في الثلاث سنوات الأولي، أي منذ الانقلاب وحتى سبتمبر 1993 نحو 76640 في حين بلغ عدد الذين أحيلوا للتقاعد منذ بدء دولة الاستعمار 1904 وحتى يونيو 1989 نحو 32419 موظفاً .
كلنا يعلم أن السودانيين كانوا وإلى عهد قريب يتداولون بكبرياء غير مصطنع وشموخ غير هَيَّاب سِير مثالية تُعضد جمال قِيمهم ومُثلهم وأخلاقهم، ولكن منذ أن هبطت عليهم العصبة أولي البأس في ذاك الليل البهيم، أصبحت تلك السيرة خراباً ينعق فيه البوم! والثابت أيضاً أنه بفضل سياساتها الرشيدة، فإن بوار هذه السلعة وكساد سوقها تخطى الحدود الجغرافية ووصل لمضارب أقوام يُعدُون بالملايين في دول الشتات والمنافي وديار الهجرة والإغتراب. وسواء الصابرون في الداخل أو المكلومون في الخارج، فمن نكد الدنيا عليهم أن يروا الكذب وقد أصبح فهلوة والنفاق وقد إستحال ذكاءً والسرقة وقد أضحت شطارةً، بل حتى الحياة فقدت طعم الدهشة لمن ظنَّ أن ذلك يجرى في ظل دولة أصحاب الأيادي المتوضئة!
كنا قد ذكرنا مِراراً وتِكراراً وأكَّدنا على أن مجزرة الفصل التعسفي تعتبر الأسوأ في السجل الأسود للعصبة ذوي البأس، ومن عجائبهم يومذاك في جاهليتهم الأولى إنهم أسموه بهتاناً وإفتراءً بالفصل للصالح العام، وهو تعبير موغل في الذُلِّ والهوان! ناهيك عن أن الإجراء نفسه لو وجد مدعٍ كصاحبنا الماثل خلف البحار، لكان أدخله مدخل صدق في أضابير القانون الدولي كجريمة ضد الانسانية أو صنفه كحملة إبادة جماعية. فتلك الجريمة النكراء إلى جانب خلخلتها كيان الخدمة المدنية، فقد أدرك الناس بعد حين إفرازاتها السالبة على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتمظهرت آفاتها بصورة خاصة في سلوكيات دخيلة باتت تنخر كالسوس في أخلاق الناس، وكلنا يعلم أن سياسة الفصل التعسفي تلك كانت قد طالت كل من حامت حوله ?شبهات? تشكك في ولائه للسلطة أو مشروعها الحضاري بغض النظر عن مؤهلاته المهنية، إلى أن بلغ عدد جحافل المفصولين في تلك المذبحة أكثر من 200 ألف «بحسب زميلنا السر سيد أحمد/الشرق الأوسط 19/5/2001 بلغ عددهم في الثلاث سنوات الأولي، أي منذ الانقلاب وحتى سبتمبر 1993 نحو 76640 في حين بلغ عدد الذين أحيلوا للتقاعد منذ بدء دولة الاستعمار 1904 وحتى يونيو 1989 نحو 32419 موظفاً» ومع ذلك مضى كل شىء في هدوء مثلما تمضي سائر الأشياء في السودان منذ الأزل، بل الأنكى والأمر أن العصبة رفعت شعاراً آخر أكثر إستفزازاً أسمته ?إعادة صياغة الانسان السوداني? واتضح بعدئذٍ إنها الصياغة التي صبت في مواعين التحلل الأخلاقي المذكور!
طبقاً لهذه التداعيات التي ترجلت فيها قيم وصعدت سلوكيات بديلة، كانت ردود فعل المفصولين أنفسهم قد تباينت بعد أن اصبحوا حفاة عراة بين عشية وضحاها، فمنهم من قبض على الجمر وعصب بطنه وشرفه مهتدياً بالقول المأثور ?تجوع الحُرة ولا تأكل بثدييها? ومنهم من طفق يبحث عن رزق في خشاش الأرض غير آبه بالويل والثبورٍ وعظائم الأمور، ومنهم من ضرب أكباد الطائرات والقطارات وقطع بحوراً وصحارى ووجد نفسه في بلاد لم يرها حتى في الخارطة، وبالطبع منهم من أثقلت حياة الضنك كاهله ولم يستطع معها صبرا، فأراق ماء وجهه خضوعاً لقول من إدعى ألا فضيلة مع الفقر. وبين هؤلاء وأؤلئك كشفت الصدمة التي زلزلت كيان المجتمع عن قصص يشيب لها الولدان، فبات المرء يسمع مذهولاً عن أن احدى حرائر السودان…خلعت ثوبها وبسطته على قارعة الطريق بأمل أن ينفحها مشترٍ بعض دريهمات تبتاع بها دواء لصغيرها المُحتضِر، ويستوقفك رجلاً ترى فيه ملامح والدك بذلك الكبرياء المجروح فيسألك بعض لقيمات يُقِمِّن صُلبه ولسان حاله يقول إرحم عزيز قوم ذَلَ، وتشاهد بأم عين لم يصبها الرمد طفلاً يافعاً يتسكع في الشوارع، وعندما تسأله لماذا لم يذهب للمدرسة، يقول لك ببراءة كأنه يتقيأ موروث أمة موغلة في الضلالة «أبوي قال ما عنده مصاريف المدرسة» والمسكين لا يعلم أن قولاً كهذا لو ردده في إحدى دول ?الكفر والغرب الصليبي? لهُدمت صوامع وبيع وكنائس!
بعد ان جزَّ المسؤول عن أرزاق الخلق رؤوساً أينعت فيما أسماه بالصالح العام، مضي بعدئذ إلى رحاب ربه، عنَّ للعصبة التراجع عن موبقاتها تحت مبررات ودعاوٍ معروفة، فأوهمت المفصولين بأنها ستعيد لهم حقوقهم، وكونت لهذا الغرض مفوضية تسد عين الشمس، ورغم مضي ردح من الزمن إلا أنها ظلت تدور حول نفسها ?كثور الساقية? والمفارقة إنه حينما نادت على المفصولين أنفسهم تقدم لها نفر قليل، فهي تعلم ولا تريد أن تعلم أن الثلث مضى أيضاً إلى رحاب ربه غيظاً وكمداً، والثلث الثاني وجد في المنافي والمهاجر ملاذاً يقيه ظلم ذوي القربي، أما الثلث الأخير فنصفه هو من أستجاب للنداء، ونصفه الآخر كان قد آوى إلى جبل يعصمه مذلة السؤال، ولم يشاء أن يطلب الرحمة ممن فصله بلا رحمة. ولم يكن أمام المفوضية سوى أن تطوي كتابها ببضع مئات أعادتهم لـ ?مثواهم? ذراً للرماد في عيون كل مدعٍ أثيم! وعلى الجانب الآخر كُتب على أهل السودان أن يروا مسرحية أخري من مسرحيات العبث، وهذه المرة قوامها المهرولون من أحزابهم لملء الوظائف الشاغرة في دولة الصحابة، وتلك لعمري من فنون العصبة التي يعجز عن أدائها أمهر لاعبي ?الأكروبات? الصينية، إذ يقول القادمون الجدد جئناكم أهل دار آمنين تلبية لنداء الوطن، وإمتثالاً لصوت العقل والحكمة ودرءاً لمخططات الصهيونية ودول الاستكبار، فيقول لهم كورال العصبة مرحى مرحى بالعائدين إلى حظائرهم، حللتم سهلاً ونزلتم سهلاً خذوا نصيبكم من رزق خلف هذا المحراب…ساقه الله لنا وما كنا منتظريه أو كما قال!
****************************************************************
الرأى العام السبت 25 يونيو2005
إعادة المفصولين للصالح العام بين رغبة الساسة ومتاح الإدارة !!
تقرير: أحمد يونس
عاد العريس (م .ض) الي عمله بعد شهر العسل، وعوضاً عن الإحتفال بعودته، ناداه مديره وسلمه مظروفاً مغلقاً، فتحه فوجد أمرًا بإحالته للتقاعد بإلغاء الوظيفة، فعاد الي منزله وعروسته، وحين أخبر ”العروسة” بإحالته للتقاعد، قالت بروح تمتزج فيها المرارة بالدعابة: يا زوجي العزيز ماذا سأقول لصديقاتي عن عملك ؟ فأنا لا أستطيع القول بأن زوجي بـ ”المعاش” لأني ما زلت شابة وعروسة جديدة!
وتجاوزت الأسرة الشابة بهذه الملودراما المأساوية صدمة الفصل للصالح العام، لكن أسراً أخري خانتها القدرة علي إحتمال الفصل، فتشردت، وترك أبناء ها مدارسهم، بعض الزوجات تطلقن، وأخري أصابتها أزمات نفسية وإجتماعية، بينما غادر البعض البلاد الي المهاجر البعيدة.
هذا ليس سيناريو لمأساة صنعها خيال كاتب متشائم، لكنه نحت في أرض الواقع خلال فترة أوائل التسعينات إلي أواسطها، والتي تبني فيها الحزب الحاكم سياسات جديدة تهدف إلي تمكينه من الدولة وترسيخ أقدامه وسلطته.
مسمار جحا
الحكومية تقديم ما عندها من إحصاءات، تنشأ بموجب إتفاق القاهرة لجنة مشتركة بين التجمع والحكومة، لجنة رفع المظالم والضرر، التي تنحصر مهامها في حصر المظالم، والأستماع للشكاوي، وإعداد الكشوفات، وفتح الباب أمام المظلومين من عضوية التجمع.
ومع النص في الإتفاق علي تكوين اللجنة، إلا أن بوادر صراع تلوح في الأفق، حول الإحصاءات، وتعريف المفصولين للصالح العام! رغم أن الإتفاق حدد مهام اللجنة، إلاّ أن أي طرف يحتفظ بتعريفه الخاص، بإحصاءاته الخاصة، وهنا تتوقف العربة أمام الحصان وتمنعه المسير.
ويؤكد الفارق الكبير بين إحصاءات الطرفين إتساع المسافة بينهما، فالحركة الشعبية تذهب للقول بأن عدد المفصولين يقارب المائتين، بينما لا يتجاوز العدد عند الحكومة العشرة آلاف! فهل ياتري يحتفظ كل طرف للآخر بـ ”مسمار جحا” يعود به الي المنزل القديم متي ما أحس بأن الأكمة تخبيء وراءها الكثير!
* أصل الحكاية
تعود سيرة سياسات تصفية الخدمة المدنية إلي حقب سابقة في تاريخ السياسة والإدارة السودانية، لم تسنها حكومة الإنقاذ، لكنها إستخدمت مكيالاً أكبراً ما زادها مرارة ، فقد مارستها نخب سياسية عديدة وصلت الي السلطة في البلاد وأطلقت عليها أسماءً عديدة، فمرة تكون ”التطهير”، وأخري ”تصفية الطابور الخامس”، بيد أنها استقرت في عهد الإنقاذ علي مصطلح ”الصالح العام”.
لكن لظروف شتي أصدر الرئيس البشير مرسوماً رئاسياً في إحتفال الإنقاذ بعيدها الخامس عشر، وجه بموجبه بدراسة ظلامات المفصولين للصالح العام، وكلفت هيئة رد المظالم والحسبة العامة بتولي أمر إرجاع الحقوق إلي أهلها، وتبعاً للقرار الرئاسي كشف الأمين العام لهيئة الحسبة العامة مولانا محمد أبوزيد وهو يتحدث إلي منبر ”سونا” الأسبوع الماضي عن أعداد كبيرة تقدمت لهيئته تطالب برد مظلمتها بلغت أعدادها خلال فترة شهرين (9216) مظلمه، منها (7471) مظلمه من المفصولين من الخدمة المدنية والعسكرية والشرطة.
في الزمن الحرج
وقال أن الهيئة أكملت دراسة كل المظالم ومستنداتها وشكّلت لجان متخصصه لهذه المظالم بوزارات: الدفاع لشكاوي القوات المسلحة، والداخلية لشكاوي قوات الشرطة، فضلاً عن لجنة ثالثة بمجلس الوزراء للنظر في شكاوي الخدمة المدنية المتعلقه بالاحالة للصالح العام او الغاء الوظيفة بالخصخصة،
وانها تنظر في هذه القضايا وفقا للوائحها واختصاصاتها.
وأوضح الأمين العام المتظلمين أن اللجان تواصل عملها ليلاً نهاراً وستفرغ منه خلال فترة وجيزة، وسترفع تقاريرها للهيئة، التي ستقوم بدورها برفع توصياتها لرئيس الجمهورية، وأن هذه الاجراءات تهدف لتنفيذ توجيه رئيس الجمهورية في العيد الخامس عشر لثورة الانقاذ. وتبلغ شكاوي المفصولين من الخدمة المدنية ـ حسب لجنة المظالم ـ (2597) شكوي، منها(407) للصالح العام، و (2190) بالغاء الوظيفةوتتوقع لجنة الحسبة أن تفرغ من عملها قريباً ، وأنها تلقت ظلامات من مواطنين من خارج السودان معظمهم من
مفصولي الصالح العام.
أرقام متضاربة
وتقول مصادر صحافية أن أعداداً أخري من المفصولين للصالح العام، من الذين فقدوا الثقة في ”اللجان الحكومية”، تقدموا بطلباتهم لمكتب الحركة الشعبية في الخرطوم، بعضهم من أعضاء الحركة والبعض الآخرمن الذين يأملون في السودان الجديد ينتظرونه بفارغ الصبر، وأن البعض زار مقرات الحركة وقدم مظلمته إليها منذ أن أتي ”وفد المقدمة” وقال الدكتور محمد يوسف عضو الحركة الشعبية أن الحركة لا تتعامل مع القضية باعتبارها قضية مظلمة تقدم للجنة لتحلها فردياً، وإنما تنظر إليها بشمولها، لذلك إستضافت اللجنة التنفيذية للمفصولين للصالح العام في مكاتبها، لمعالجة القضية ضمن الحل الشامل لقضايا البلاد، وذكر سليمان أن اللجنة التنفيذية للمفصولين للصالح تقول أن من تقدموا لها بطلبات مرفقة معها خطابات الفصل يبلغ عددهم (200) ألف مفصول للصالح العام في العاصمة والأقاليم، وما زالت طلبات المفضولين للصالح العام ترد إلي مكاتب اللجنة التنفذية في مقرات الحركة الشعبية. في الوقت الذي توقفت فيه الإحصاءات الرسمية في حدود العشرة آلاف مفصول.
وتذكر هذه المصادر أن أعداداً كبيرة من الذين شملهم قانون الفصل للصالح العام بمسمياته المختلفة عازفون عن تقديم طلباتهم لهذه اللجان، ويقول بعضهم أن ما ضاع منهم أكبر من أن يرد.
مناضلين كبار
نفي أمين الإعلام والعلاقات العامة بالإتحاد العام لنقابات عمّال السودان عمر الباشا علاقة إتحاده بعمل اللجان التي تعمل علي رفع مظالم المفصولين للصالح العام، وقال أن الإتحاد إستبق قرارات الرئيس بالطلب من مجلس الوزراء بإعادة النظر في قرارات الصالح العام، وأن مجلس الوزراء أصدر قراراً بتكوين لجنة أعادت للعمل كل من تقدم لها. وأن إتحاده يقترح إرجاع المفصولين للصالح العام وإلحاقهم بالدرجة الوظيفية التي وصلتها دفعتهم، وتسوية أوضاع الذين وصلوا سن الخدمة المعاشية أو إقتربوا منها.
لكن أمين الإعلام عاد للقول أن هنالك لبس حول الفصل للصالح العام، وتعريف المفصول للصالح العام.
إذ يتداخل مع المصطلح الذين فصلوا وفق قرارات إعادة الهيكلة والخصخصة، والمفصولين بقرارات لجان المحاسبة، وأن إتحادة سيقف مع المفصولين للصالح العام، وليس مع الذين فصلوا وفق إجراءات إدارية ولجان محاسبة، وأنه يري أن معظم الذين فصلوا للصالح العام ”لن يرحعوا للعمل” لأنهم أصبحوا ”سياسيين ومناضلين كبار”.
* شفافية جديدة
لكن اللجنة الوزارية للنظر في تظلمات المحالين للصالح العام رفضت أن تدلي بأية معلومات عن عملها إذ قال مقررها عثمان عبد الحليم، أن اللجنة مازالت تدرس الأمر، وحين تفرغ منه سترفع تقريرها لرئاسة الجمهورية، وفي ذات الوقت نقلت سكرتارية رئيس اللجنة عمر محمد صالح، عدم إستعداده لتقديم أية إفادات قبل إكمال التقارير ورفعها للرئاسة.
ويشار إلي أن التوجيه الرئاسي كان قد صدر قبل عام أي في عيد الإنقاذ الخامس عشر، لكن اللجان نشطت مؤخراً، ويري المراقبون أنها تسعي لإكمال عملها قبل العيد السادس عشر للإنقاذ ـ والذي قد يكون الأخير ـ أي بالضبط في الزمن الحرج.
لقد فعلت حكومة البشير في الخدمة المدنية مالم يفعله الاستعمار فسرحت الكفاءات وحلت مكانهم المنافقين النفعيين حيث كان القفز بالزانة من قاعدة الهرم الى اعلى القمة مما ادى الى انهيار هرم الخدمة المدنية وايضا فعلت ذلك مع الخدمة العسكرية حيث سرحت خيرة الضباط وادخلت العسكريين الجدد الذين لم ينالو التدريب الكافي ليصبحوا ضباط اما بخصوص الديمقراطية فانها لاتجدي في دول العالم الثالث لانها تحتاج الى درجة من الوعي لان الناس في بلدي لايفرقون بين الحدية والفوضى والمعارضة تعادي الحكومة الى درجة اختلاق الازمات وشراء المواد الاتموينية وتخزينها لخلق الازمات