سعة الأحلام وعبادة الصبر !

بعض الناس يظن ان الحياة تقع في المستقبل ولا وجود لها في سواه، وبالتالي يظل يؤجل كل شيء في انتظار ذلك اليوم القادم الجميل الذي سوف تتحقق فيه كل الأحلام وتُرى الآمال مجسدة، وهو بهذه الطريقة يكون قد أضاع الاستمتاع باللحظة الحاضرة ما يعني انه سيمارس الانتظار لأنه قد يقضي سنوات طويلة قبل أن تكون تلك اللحظة التي يطمع فيها وينتظرها وهي التي يظن أنه بمجيئها سوف تتحقق الأحلام والأمنيات كلها دون نقصان. وهذا نوع من مغالطة الحياة وسننها.
لا شيء ينمو فجأة.. ولا شيء يولد خارج سياق الحياة وتراكمها اليومي.. كما تصعد سلما درجة درجة.. فالاستعجال لا يأتي بنتيجة كما ان الانتظار بظن ان الساعة المشرقة قادمة هو أيضا نوع من استغباء الذات فالعاقل يعمل لكل لحظة وكما ورد في الأثر.. أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا وأعمل لأخرتك كأنك تموت غدا.
حكمة الحياة عريضة ومليئة بالأمثال والعبر وهي نتاج تجارب الناس وخبراتهم في هذا العالم وكل يتعلم في كل يوم وفي كل موقف يمر به، لكن الحكمة ليس في مجرد التعلم بل في إحلال هذا العلم إلى تطبيقات ومجسدات محسوسة بحيث تتحقق الفائدة، وإلا فلا معنى لما نحصده.
لهذا قيل هناك فرق بين العالم والعارف.. فالأول يراكم المعلومات في ذهنه أما الثاني فهو الذي يعرف كيف يوظف المعلومات وينقلها إلى سياق الحقيقة.. ويجب هنا ان نميز بين فكرة العلم والمعرفة. وبين العارف في المفهوم الصوفي أو الديني والعارف في المفهوم المباشر.
ففي السياق الصوفي يكون العارف ذلك الذي امتلك معرفة خاصة بحقائق الملكوت وعاش على حقيقة الإيمان وقوته وهو مدرك لما تحتوي الذرة وما يعمر به الكون من خبايا. فالعالم/العارف في حقائق المتصوفة هو إنسان اختصاه الله بهذه المنزلة التي قد يصلها عن طريق علم أو عن طريقة هبة مباشرة من الله. لكن العارف في المفهوم المباشر هو إنسان عادي يملك كمّا من المعلومات عن قضايا مختلفة في الحياة الإنسانية.
ما يهم من محصلة هذا السرد هو ما بدأنا به ان الإنسان يكون سعيدا ساعة يختبر حياته بمعرفة وإدراك وهو يتلمس خطواته بإيمان صادق واثق من خطواته إلى أن أين تقوده دون أن يمضي متخبطا لا يعرف هدى نفسه. وهذا الذي يعرف “حقيقته” يكون مؤمنا باللحظة بقدر إيمانه بالمستقبل ويكسبهما الاثنين معا اللحظة والقادم. وبهذا يتحقق له معنى وجوده في هذا العالم المعقد بمشكلاته وبصراعاته وأزماته والتي لا يمكن لأي فرد أن يكون بمعزل عنها حتى لو عاش داخل صومعته الخاصة.
على المرء ان يكون شجاعا لمجابهة الحياة التي هي في النهاية تحدٍ طويل وانتصار على الذات في ما تشتهي ليل نهار وعلى مدار العمر، وما أوسع أحلام الإنسان وأقل حيله.
***
عبادة الصبر هو الجانب الآخر لهذه اللوحة الحياتية والمعاش اليومي.. ورهق الحياة وجنونها. وهو في تقدير البعض الحل. حيث لا حل. اصبر.. فقط!! حيث يكاد يكون الصبر شعيرة وعبادة تفوق بعض العبادات في ثوابها وقيمتها في التراث الديني، وفي بعض الآيات القرانية جاء الصبر متقدما على الصلاة، فما الذي يفعله الصبر في الإنسان وما هي آثاره بالضبط؟ بنظر المجتمع أو التجربة الإنسانية؟
إن الصبر بإختصار هو طاقة حيوية تمكن الإنسان من اختبار الذات ضد الألم والضعف والهوان وغيرها من العوامل السلبية التي يمكن ان تصيب النفس البشرية، وكلما استعان بهذه القوة “الصبر” استطاع ان يشكل زادا ومخزنا يستعين به ضد مراحل الحياة المختلفة وما يمكن ان يمر به من اختبارات لاحقا.
فالصبر مثله مثل الصلاة والطقوس الروحانية واليوجا وغيرها من الممارسات التي تخرج الذات عن محيط المحسوس، فالصبر من المفترض أنه يعلم الإنسان الخشوع والاقتراب من الله والتأمل والتفكر والتدبر وغيرها من الصفات المرتبطة بالأعمال الذهنية والفكرية الراقية.
ولو تأمل كل منا في حياته لوجدها سلسلة من حبال الصبر الممتدة، فأنت تولد طفلا صغيرا وقبلها كانت أمك قد صبرت عليك تسعة أشهر وأكثر وهي تحملك وهنا على وهن وتصبر وتعاني من أجل أن تمنحك الحياة، ومن ثم كان مسار حياتك من الصغر إلى اليفاعة إلى المراهقة إلى الشباب إلى الكبر، وفي كل مرحلة تتدرب وتتعلم وتختبر الحياة في كافة مساراتها المختلفة، تقترب في كل يوم من جديد، ولكي تصل إلى حلمك أو مرادك القديم في زمن الطفولة أو الصبي تظل تكدح وتعمل لكي تحقق المراد وما أطول الطريق وما أحوج الإنسان إلى الصبر ولن يكون الشعور الحقيقي بثمرة الصبر ولذته إلا ساعة يكون جني الثمرات في نهاية الرحلة.
إن صعود الجبال أمر شاق، ومغامرو التسلق على الهضاب والأماكن المرتفعة يبذلون جهدا كبيرا ويصبرون، ولكن ما أسعدهم ساعة يكونون قد وصلوا إلى القمة وجلسوا هناك.
الذي يريد أن يصبح عالما أو طبيبا معروفا أو صحفيا كبيرا أو قاضيا عادلا أو لاعب كرة موهوب أي مهنة كانت، فلابد له من التدرب الطويل على الصبر فالحياة لا تأتي هكذا بمجرد الأمنيات والاقتراحات التي يقترحها الإنسان على نفسه إذ لابد له من ذلك الدأب والعمل المتواصل والتحمل لكافة أشكال المعاناة التي يمكن أن يعبر بها.
أما الذي سوف ييأس ويقف عند أول الطريق أو منتصف الرحلة ليعلن أنه غير قادر على إكمالها بعد أن وسوست له نفسه أو الشيطان فهو بلاريب قد فقد معدن الصبر واستبدل تلك الشعيرة السمحة بأن أصبح متلهفا، لكن الله أسس هذا الكون وأقام سننه على التدرج في كل شيء.. لا بذرة تنبت هكذا بين ليلة وضحاها إذ لابد لها من زمن تسقى فيه وتتابع لكي تنهض من الأرض وتعطي الأغصان والأوراق والثمرات.
الحياة برمتها تقول لبنى آدم.. أصبر، وتعلمه الصبر أينما توجه.. لكن هناك من يريد للأمور أن تحدث دون مقدمات ودون خبرات ودون تجارب.. يريد لأنهار الزمن ان تفيض بالعطاء وهو لم يقدم شيئا ولم يصبر ولو ثوان لكي يتعلم ويختبر ذاته.
لكن مع ذلك فالحذر ان يتحول الصبر إلى أفة قاتلة أن يصبر هو السلاح الذي يصوب إلى جسدك وروحك فيكون قاتلا بدلا من أن يكون علاجا ناجعا للأزمات التي يمر بها الإنسان. فأحيانا كثيرة يستخدم الصبر بشكل سلبي ويوظف على أنه الحل في حين أنه ليس إلا برزخ يقود إلى الحل وليس هو الخلاصة المفترصة التي يصل إليها المرء أو يرتجيها.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لا يمضي احد الا ويستكمل رسالته كلها حتي وان (فضل )شي من حتي تعلق بجوفه (باستثنا الانبيا والرسل).في القديم عندما كان هناك ندره في العلماء استدعي الامر ان يكون احدهم حجه في 6 الي 7 علوم تذيد او تقل .نحن الان في عصر ( تخصص التخصص)وقد لا تعجب ان احدهم يقضي 30 او 40 سنه من عمره في دراسه جذئيه صغيره جدا.
    ليس كل العلوم يستوجب دراستها او حتي مجرد السؤال عنها ان لم يكن يسند الباحث (مرجعيه)تساعده علي هضم واستعاب ما تلقاه دون ان يشرخ ما كان موجودا لديه او ان يساعده في اعادة صياغة ما كان لديه ان كان به اعوجاج.بعض العلوم ضربت عليها استار من السريه وظلت تتداولها (حماعات)في اطار من التكتم الشديد مثل ( علم ) السحر .والماورائيات ( كالطيران .التواجد في مكانين. ابطال خاصية الاحراق لدي النار او او ) ومن اجري الله علي يديه كرامه من الادب سترها وعدم اظهارها والتباهي بها بعكس كل الامور (الظلاميه).وفرق اخر ففي العلوم (النورانيه) يتم الاستعانه بالرحمن وفي العلوم (الظلاميه) يتم الاستعانه بالشيطان. وفرق اخر ان الاول يتم فيه الامر حقا وفي الاخير لا يعدو ان يكون محض خيالا وتوهم ..الي التفريق بين الذوجيين. وفرق اخر ان الاول يخالطه الايمان والاخير الكفر.
    التحصيل العلمي والتجارب الانسانيه تاخذ جل حياة العالم وما يعلمه (عادة) لا يساوي نصف ما تلقاه فكم من علمائنا قضوا وفي انفسهم اشياء من حتي .بل حتي سيرهم الذاتيه ذاهدون في كتابتها ويتم تناقلها شفاهة .في المجنمعات المحافظه ادب المذكرات لديه من الكوابح ما يحد من حركة الكاتب وعدم مناقشة الكثير من القضاياء في الهواء الطلق .نحن لا نقصد (التعري)الذي تم في (مذكرات كرستين كلر)بل المقصد تسليم القاري الخيط(الصحيح )ثم ان تترك لفطنته اكمال ما تبقي .
    برغم قناعتي ان ليس كل العلوم يتهافت عليها الا ان بعض العلماء الاجلاء برغم ثقل ما يحملونه علما وادب الا انهم تتضافر حولهم عدة ظروف تحول بينهم والمتلقي .فتشيخ تلك الاشجار وتذوي تلك الثمار و لا يلتقم المتلقي سوي اسائلته الحائره فحسب .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..