حرية التعبير في مهب الريح الوزارية

حرية التعبير في مهب الريح الوزارية

رباح الصادق

هنالك مثل يقول: سوف تظل قصص الصيد تمجد صيادي الأسود حتى يتعلم الأسود الكتابة. فلكل قضية مقاعد مختلفة للرؤية يتحول فيها المشهد من مقعد لآخر. الناظر لقصص الصيد من مقعد الصيادين يمجّد بطولاتهم في هزيمة ضحاياهم من الأسود، والناظر لها من مقعد الأسود يمجّد تصديهم الشرس وإحباطهم لغارات الصيد كثيرا وجندلتهم للصيادين.
هذه المقاعد المختلفة نراها بجلاء ونحن نراقب موقف المسئولين في وزارة الإعلام من الصحافة ومشاكل حرية التعبير في السودان.
فالذي يراجع تصريحات السيدة سناء حمد العوض وزيرة الدولة للإعلام منذ فترتها السابقة وحتى بعد تجديد الحكومة الشكلي في إهابها القديم مؤخرا يلاحظ أن اهتمامها هو اهتمام صياد أصيل، فهي مهتمة بوضع القيود الإضافية التي تجعل الصحافة أكثر موافقة للدور المرسوم لها في تثبيت الحكم. وقد عبرت كثيرا بانزعاجها من الصحافة الإلكترونية التي ترعى بدون تلك القيود الموجودة في الصحافة الورقية، وأعربت عن ضرورة دخول الصحافة الإلكترونية أيضا بيت الطاعة الحكومي.
وزبدة القول من جانب الصياد الحكومي هو أنه منزعج للغاية من مبلغ الحرية البالغ برأيه الذي يتاح للصحافة حتى يجعلها تطأ طرف هذا المسئول أو ذاك بدون أن يكون هناك عقوبة رادعة لذلك. ورئيس الجمهورية عبّر عن اعتقاده بأن الحرية المتاحة في الصحافة كبيرة للدرجة التي تجعل الواحد لو أراد مطالعة الصحف، محتاج لتناول «حبة الضغط»، كناية عن ارتفاع ضغط دم المسئول إذا طالع الصحف من فرط ما يقرأ من نقد لاذع. وبالتالي تجد السعي الرسمي منصبا دائما وأبدا نحو وضع القيود، وتقليل مساحة النقد، وزيادة مساحة العقوبات للمتجاوزين.
أما من جانب الأسد الصحافي، فأنت ترى الضجر يتزايد من فرط القيود وازديادها. فبعد اتفاقية السلام لسنة 2005م أتيحت مساحة من النقد مناسبة نوعا ما وتحسن سجل السودان من جانب حرية التعبير بمقدار، وفي تلك الفترة بدأت الصحف الحزبية بالصدور العلني فخرجت «الميدان» من تحت الأرض للعلن، وصدرت «رأي الشعب» و»صوت الأمة» و»أجراس الحرية» التي كان لها بالحركة الشعبية لتحرير السودان صلة، وامتلأت الساحة بأقلام معارضة ليس في معارضتها للحكم الحالي شك. وشمّر الصحافيون للبحث عن قانون صحافة جديد يزيل القيود في قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2004م والذي وضع مباشرة قبل توقيع اتفاقية السلام واعتقد البعض أنه كان استباقيا لفترة السلام ولتأكيد القيود فيها، ولكن سطوة الصيادين السلطوية كانت أكبر من قدرة الأسود على الفكاك، وفي النهاية جاء قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2009م أضل سبيلا من سابقه، ومصاحبا للقانون الجنائي القديم بتعديلات مع ذات مواقفه القديمة فيما يتعلق بالصحافة. فاستمر القانون والغا في تجريم العمل الصحفي: فإشانة السمعة والخبر الكاذب وإفشاء المعلومات الرسمية ظلت أبوابا جنائية ثابتة، أما قانون الصحافة فجرى فيه تعديل طفيف لغويا ولكنه كبير جدا من حيث استلاب الحقوق الصحافية الأساسية. إذ كان القانون القديم ينص على وجوب إعطاء الصحافي ما يطلبه من معلومات في المؤسسات العامة، ولكن المادة 27 من القانون الجديد حولت تلك الواجبية إلى نص يقول بجواز إعطاء المعلومات للصحفي، مما يعني أيضا جواز حجب المعلومات عنه فصار الموظف العام هو الذي يقدر هل يعطي الصحفي المطالب بمعلومة ما يطالب به أم لا؟ هذه ردة ضخمة للغاية في قانون سنة 2009م، خاصة حينما تقرأ مقرونة بالمادة 55 من القانون الجنائي التي تجرم إفشاء المستندات والأوراق الرسمية، بل وتجعل ذلك الإفشاء (بموجب قانون الإجراءات الجنائية) معرضا صاحبه للتوقيف بدون المرور بالإجراءات الروتينية، مما عرض الصحافيين لتعاملات قادمة رأسا من الغابة، وليست حادثة الصحفي أبو القاسم مع وزير المالية عنا ببعيدة، ومع أن الوزير تجاوز فيها حتى ما أتاحه له القانون بحبس الصحفي لساعات إلا أنه كان يمكنه أن يعرضه للحبس وزيادة عبر القانون، لأنه أشهر في وجهه وثيقة متعلقة بمخصصات مدير أسواق الخرطوم المالية، وهي وثيقة رسمية وإفشاؤها يجرمه القانون.
وهموم الأسود الصحافية صارت متزايدة مما صنع الصيادون. حتى خلت محمية الصحافة السودانية تماما من أي أسد معارض أو تكاد. ومنذ سنوات بدأت هجرة جديدة لصحافيين صمدوا حتى أيام «الإنقاذ» الأولى وقيودها المشهودة. وكثير ممن بقي من المعارضين أغلقت في وجوههم الدور الصحفية أو ظلوا متنقلين ما أن تضيق بهم صحيفة حتى يرحلون لأخرى فتضيق بهم، وهكذا. ذلك لأن آليات التقييد كثرت وتضافرت وصارت تجعل لحرية التعبير أثمان تدفع جنائيا بالتجريم والحبس والغرامات، وماليا بمقاطعة الإعلان الحكومي الذي يبلغ نحو 40% من حجم الإعلان، وحتى الشركات الخاصة فإنها لا تحب أن تغضب الحكومة وبالتالي تظل الصحف التي تؤوي الأقلام المغضوب عليها معرضة لضغوط لا نهائية، خاصة ونحن نعلم أن الإعلان وليس المبيعات هو الذي يقيم أود الصحف الحالية لأن التوزيع لا يغطي مصروفاتها ناهيك عن الربح.
إن هموم الصحافيين متكاثرة من القانون الحالي، فالقيود على ممارسة المهنة وعلى تقلد رئاسة التحرير تعارض معايير حرية التعبير العالمية وهي تمارس هنا بشكل انتقائي، والنتيجة أن الخبرة الصحافية السودانية الرصينة «مزمبعة» في آفاق الأرض أو «مغمولة» في ظلمات الحوت، ويتقلد رئاسة صحيفة من لا يعرف هل كان في بطن النون يونس أم أيوب؟ هذا إضافة للخوف من الاتجاه البادي لمزيد من القيود، ولإضافة قيود للصحافة الإلكترونية التي شكلت رئة للكثيرين ومتنفسا للتعبير ونافذة للمعلومات المحجوبة رسميا.
هذا الوضع السيئ لحرية التعبير عبر عنه مؤشر حرية التعبير الذي تصدره منظمة مراسلون بلا حدود الصحفية، ففي سنة 2010 جاء السودان رقم 172 من أصل 178 دولة بمعدل قيود يساوي 85% حيث يقبع في الخانة التقييدية الحمراء.
ونصيحتنا للوزيرة سناء، إذا أرادت أن تجلب لنا (سودان الهناء) بتعبير مولانا سيف الدولة حمدنا الله، فعليها كمسئولة ألا تصغي فقط لوسوسة الصياد، بل أن تحاول النظر من وجهة نظر الأسد، وأن تسعى لتطوير بيئة العمل الصحفي ليس فقط من ناحية حقوق الصحافيين المادية والضمان الاجتماعي، وهي مطالب أساسية، ولكنه هناك مطالب أصيلة فيما يتعلق بمعايير حرية التعبير وحرية الوصول للمعلومات، ولا مجال لتطوير الصحافة بدونها، وعليها أن تسعى لعكس جهة رياح التغيير التي تمسك بقرونها، فبدلا عن أن توجهها لمزيد من القيود، أن توجهها للحريات. هذا وإلا فإنها ستجعل الصحافة مرتعا للأسود الضامرة أو المكرية، ولن تحصد سوى مزيد من انعدام المهنية والضعف.
وليبق ما بيننا

الراي العام

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..