هذا الرجل الفخيم

فلاش باك:
في يوليو 1964 أعلنت نتائج امتحان الشهادة الثانوية السودانية، وكانت أسماء الناجحين بدرجاتهم الأولى والثانية والثالثة تذاع آنذاك من راديو أم درمان لتبدأ بعدها مرحلة البحث عن تفاصيل الشهادة في مقر وزارة المعارف التي كانت تطل على النيل الأزرق، فيتقاطر كثير من الطلاب على الوزارة وينتشرون في ردهاتها وساحاتها بأحلامهم المؤجلة.وكان العاملون في الوزارة يحتملون بصبر عجيب وأبوية هذا التزاحم الذي يخف يوما بعد يوم، حتى يختفي تماما، ليبدأ كل طالب مرحلة جديدة من أحلام المستقبل الخاصة. كثير من الطلاب كانوا زاهدين في الحضور لوزارة المعارف بسبب بعد المكان،أو بسبب أن تفاصيل الدرجات وكل التفاصيل المتعلقة بالشهادة سيتم تعميمها على المدارس الثانوية (ياخبر بفلوس بكرة ببلاش)،أو لأي سبب آخر.
في ذلك اليوم كان يقف تحت ظل شجرة من أشجار وزارة المعارف وارفة الظلال شاب أنيق المظهر، طويل القامة،في نهاية عقده الثالث، تعلو وجهه كل سمات الجدية، ويتحلق حوله عدد من الطلاب، بينما انهمك يطالع باهتمام شديد مجموعة الأوراق التي كان يحملها.لم يكن من المستفسرين عن تفاصيل درجاتهم بطبيعة الحال، ولكنه إبراهيم الزين صغيرون أستاذ مادة التاريخ في مدرسة حنتوب الثانوية، عطر الله ذكراها،أبت عليه نفسه إلا أن يستقطع ساعات طويلة من إجازته ليمضيها في مباني وزارة المعارف ليتابع نتائج طلابه ويبدي لهم ملاحظاته وتوجيهاته. كانت تفاصيل درجاتي تؤكد أني سأحظى بالقبول في جامعة الخرطوم. اطلع عليها أستاذي ثم إنتحى بي جانبا ليضع لي بمزيج من الجدية والود معالم الطريق القادمة.قال لي أنني سأجد في الجامعة مجتمعا جديدا تتوافر فيه الكثير من الحريات الإجتماعية ويختلف إختلافا جذريا عن مجتمع حنتوب الذي تميز دون سواه من المدارس الثانوية بالإنضباط الخانق،وتشكيل إدارة المدرسة لكل تفاصيل حياة الطالب اليومية، ونصحني بأن أنظم وقتي بطريقة عقلانية،لا سيما أنني في هذه المرحلة سأكون وحدي الرقيب على نفسي. نموذج للمعلم الشامل الذي لا تقف رسالته التربوية عند حدود الفصل المدرسي، ولكنها تمتد لكل أوجه حياة تلميذه من منطلق إلتزام أدبي وليد منهجية أخلاقية مغروسة في المعلم. فالمعلمون،كما قال الكاتب إبراهيم الحمد (هم حُماةُ الثُّغور، ومربو الأجيال، وسُقَاةُ الغرس، وعُمَّارُ المدارس، المستحقون لأجر الجهاد، وشكر العباد، والثواب من الله يوم المعاد).
ما بعد الفلاش باك:
أستاذي سليل الأسرة العظيمة التي ظلت ترفد المجتمع السوداني بالعلماء والفقهاء والمبدعين والمفكرين، عمل بقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلوات والسلام(لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم،فإذا ظن أنه قد علم، فقد جهل)،فواصل هو نفسه اكتساب المعارف،والتبحر في علم التاريخ لينال أعلى درجاته.لم ألتقه بعد ذلك إلا لماما وإن كان في الخاطر والوجدان، فقد استغرقتنا هموم الدنيا، و اجتذبته مثل غيره المهاجر،قبل أن يعود مجددا لتحظى به شعبة التاريخ في كلية الآداب، جامعة الخرطوم، شأنه في ذلك شأن الكفاءات السودانية التي تشارك في صنع ثروات الأمم،وقلما تجد المناخ الملائم لها لصنع ثروات بلادها، كما قال الصحافي السعودي الأخ مطلق العنزي.والمهاجر لمن لا يعلم لا تجعل بينك وبين الأحبة بيدا دونها بيد فحسب ، ولكنها تجبرك أحيانا على أن تبش في وجه من يلعنه قلبك.
وكانت أم المفاجآت يوم هاتفني، قبل أيام من الخرطوم،وأنا في الدمام، بعد أن بذل جهدا مقدرا للحصول على رقم هاتفي. أخجلني بثنائه المكرر على ما أكتب ويحرص دائما على متابعته، ثم أشار علي بالعمل على تجميع بعض مقالاتي في كتاب واحد بعد إجراء ما يلزم من تنقيح وتحديث،وكان كريما معي حينما رحب بالقيام بدور المراجعة وتحرير المقدمة للكتاب المنتظر.أوقف أستاذي عجلات الزمن التي لا تكف عن الدوران، ورجع بي نصف قرن كامل للوراء،يوم تحلقنا حوله تحت ظلال أشجار وزارة المعارف. هو نفسه المعلم الشامل الذي يسكنه التزام دائم نحو تلاميذه حتى لو اشتعلت رؤوسهم شيبا ووهن العظم منهم،زادته الأيام نبلا وبهاء. شلالات الفرح التي غمرتني ليتها كانت ستسعد كل مدينة الدمام وتفرح ساكنيها لو لم أكن ضنينا بها وآثرت بها نفسي.
يطول عمرك أستاذي إبراهيم الزين صغيرون،الرجل الفخيم الجميل.
(عبدالله علقم)
[email][email protected][/email]
رائعٌ أنت أستاذنا الكبير عبد الله علقم ، والرائعون هذه حالهم دوماً لا تتلقفهم إلا الأيادي والأقلام التي هي من شاكلتهم.
الحقيقة العنوان جميل واطال الله عمر استاذك الجليل الزين صغيرون ولكن بصراحة عندما قرأت العنوان خفت واشفقت ان يكون مدحاً في احدى رجالات الانقاذ الذين ملئوا الدنيا جورا لأن يراع اخونا علقم سبق ان مجد من لا تمجده الاماجد مهدي ابراهيم الذي يقبع في برلمان السجم والرماد يعدلون الدستور كيفما ارادوا ويسكتون عن قول الحق .. او مدحك لكرار التهامي الذي قلت ان امانة المغتربين تشرف به ولا ندري ما الذي فعله غير كثرة السفر والحفلات الغنائية وكانه لا يكفيهم برامج الفضائيات السودانية التي تقدم بين كل ساعة والاخرى فاصل غنائي حتى حفظنا اسماء الفنانين والفنانات على كثرتهم
الحمد لله ان يراعك لم يضل طريقه هذه المرة واشكرك جزيل الشكر على هذا المدح والثناء لاستاذك ومعلمك بل استاذنا ومعلمنا ويا ليتنا نحذوا ما فعلت فنمدح من يستحق المدح ونقف صمتا عند من يستحق الذمم الا ان نضطر الى ذلك (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم وكان الله سميعا عليماً)
شيمة أهل العلم والأدب الوفاء والتواضع وعندما يذكر الوفاء فإنما يذكر بأهله ووفاء الاوفياء للاوفياء هو همس عميق في سماوات الارواح الندية الباذخة الفخيمة وذاك لعمري اروع مظاهر الوفاء لقد كفيت ووفيت كعادتك استاذنا الكبير علقم وتلك بادرة في همس اشواق قواميسك المحبة للاوفياء وللقيم والمبادئ نحو استاذك متعه الله بالصحة والعافية تحية لك من كافة المهاجر وكل الاوفياء على هذه السيرة العطرة الرائعة التي سطرها قلمك السيال
معقولة كل هذا الكلام الحلو يطلع من علقم ؟!! بارك الله فيك وفي وفائك اخي علقم .
صديقي العزيز عبر الاثير والاسفير هذا كان جيلا علم الدنيا واعطي الوطن عطاء بغير من ولا اذي تابعونا متابعة كان المعلم يقول لك مع كابلي (كاني حداك ظل مشتول علي دروب الزمن بتطول ) الذين يحكمونا هم من اجيالنا وتعلموا من نفس الكوكبة اذن كيف نسوا ذلك ما اصابنا هي محنة العقوق هؤلاء الحكام عقوا وشقوا واشقوا الوطن لانهم حاربوا الانسان والنعلم والتعليم فشقوا علينا فاشق الله عليهم كما تري !!! رجعتني وابكيتني واوجعتني لوطن كان درة من الدرر اضاعه اخواننا هؤلاء بالعقوق !!!
الأستاذ علقم لم يقل الا خيرا، فبعد زمن طويل هاهو البروفسير ابراهيم الزين صغيرون يعود ليشرف قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، وهانحن زملاؤه-وطلاب علمه – نتحلق حوله كالحواريين حول المسيح، لك المجد والسؤدد البروفسير ابراهيم، ولتلميذه علقم الود، والبروفسير إبراهيم يكفيه فخرا أنه من القلائل ممن تبحروا في التاريخ الافريقي في زمن كان الكثير من الناس يرون انه ليس لافريقيا تاريخ قبل الاستعمار!!!ولعل اهتمام البروفسير الأكبر انصب في البحث عن المجموعات السودانية التي استقرت في شرق افريقيا واسهمت في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بها( وابرزها ما يعرف بجيش أمين باشا)..شكري للبروفسي ولعلقم