رد العدوان أم صراع مع السلطان

رد العدوان أم صراع مع السلطان

د.علي السيد

إنَّ اعتداء دولة جنوب السودان على هجليج كان أمرا متوقعا ليس بالحسابات العسكرية فحسب ،ولكن بكافة الحسابات الاقتصادية والسياسية ، إذ أن موقف السودان من مسألة عبور بترول الجنوب عبر أراضيه يعتبر تهديدا امنيا واقتصاديا لدولة الجنوب ، لا لأنه سوف يجعلها دولة فاشلة ،ولكنه يهدد وجودها كدولة فما كان لها إلا الاعتداء على هجليج لا لتحتلها أو تخرب المنشئات القائمة بها أو لأنها جزء من دولتها أو إنها محل نزاع في تبعيتها لها ولكن المقصود فعلا هو لفت نظر المجتمع الدولي ودعوته للتدخل في الخلاف القائم بين الدولتين لان دولة جنوب السودان ظلت تصر على أن يكون هناك طرف ثالث في التفاوض القائم بينها ودولة السودان فيما يتعلق بالمسائل العالقة التي أجلت من اتفاقية نيفاشا، هذا الإصرار من دولة الجنوب يقابله إصرارآخر من دولة السودان لعدم دخول طرف ثالث في التفاوض وان التفاوض يجب أن يتم بينهما دون وسيط أو حكم ويرجع تمسك السودان بهذا الرفض لما لاقاه من مشاكل في اتفاقية نيفاشا وتنصل المجتمع الدولي من تعهداته بأن يجعل من السودان جنة متى ما وافق السودان على إجراء الاستفتاء في موعده وقد تنصل المجتمع الدولي عن كافة تعهداته بهذا الشأن وعلم السودان مؤخرا بأن المجتمع الدولي يعني (الغرب) وان الغرب هذا لا يريد صلاحا للسودان الشمالي وكان همه هو أن تقوم دولة في جنوب السودان لا علاقة لها بالعرب والمسلمين لهذا حسم السودان أمره فيما يتعلق بطرف ثالث كي لا يلدغ من الجحر مرتين وأتمنى أن يصر السودان على موقفه هذا ولا يتزحزح عنه ويحرص هذه المرة أن يكون التفاوض مباشراً دون وسيط أو تدخل من أية جهة بطريق مباشر أو غير مباشر غير أنني أرى أن السودان قد اخطأ للمرة الثانية بأن قاد التفاوض مع دولة الجنوب كحكومة لاشعب وهذا هو نفس خطئه السابق في نيفاشا وهذا ما يجني ثماره المرة الآن لو وسع ماعون التفاوض بإشراك القوى السياسية في الأمر لكان أفضل من أن يعتبر أمر التفاوض يخص المؤتمر الوطني وحده دون سواه أو أن الأمر يعني الحكومة دون المعارضة، فالتفاوض القائم الآن أمر يهم الشعب السوداني حكومة ومعارضة وكافة أهل السودان وان تأثيره سينسحب على الأجيال القادمة وهو أمر لا يخص الحكومة القائمة الآن فالحكومات عموما مؤسسات مؤقتة فالتفاوض القائم الآن يتعلق بمسائل مصيرية حول مستقبل السودان وجنوب السودان أيضا .
صحيح انه من حق المؤتمر الوطني أن يقول في هذا الشأن انه يمثل أهل السودان جميعا باعتبار انه حاز رضى أهل السودان في الانتخابات الأخيرة غير أن أهل السودان جميعا بمافيهم المؤتمر الوطني نفسه يعلمون علم اليقين بان الأغلبية التي حصل عليها في الانتخابات الأخيرة تمت بطريقة غير مشروعة وإنها ليست أغلبية حقيقية ومن ثم فإنها مشروعية زائفة
في رأينا والمؤتمر الوطني يراجع حساباته كل يوم كان عليه أن يضع أمر هذه الأغلبية الزائفة كأول أمر يجب مراجعته والوقوف عنده ومن ثم كان عليه مشاركة الآخرين في هذا التفاوض حتى لو كان يصر ان أمر التفاوض يخص الحكومة دون غيرها إذا كان بامكانه إن يجلس مع الآخرين في المعارضة ويصطحب معه الذين يشاركونه الحكم اسميا ليضع خارطة طريق لتلك المفاوضات يرضى عنها الجميع ثم تقوم الحكومة منفردة بعملية التفاوض بحيث يكون ظهرها مسنوداً بأهل السودان جميعا حكومة ومعارضة فيكون موقفها في التفاوض أفضل مما هو عليه الآن، فوحدة الجبهة الداخلية فيما يتعلق بالقضايا المصيرية هو صمام الأمان لتحقيق النجاح، هذه الوحدة الداخلية هي التي يضع لها الطرف الآخر ألف حساب أما إذا كان الطرف الآخر يعلم انه لا توجد بالسودان جبهة داخلية موحدة وانه يتفاوض مع حكومة مزيفة فانه يستهين بها ويستعين عليها بالمجتمع الدولي وقد يصل به الغرور لغزو تلك الدولة كما تم في هجليج فبرغم من ان دولة الجنوب اعتمدت ذلك الغزو كطريق للفت نظر المجتمع الدولي وتسهيلا له بالدخول في الأمر فإن دولة الجنوب تعني بغزوها لهجليج مزيداً من تفتيت الجبهة الداخلية للسودان وان كان هذا لم يتحقق لها لأسباب كثيرة ولكن كما يقال ليس كل مرة تسلم الجرة .
من الواضح ان المؤتمر الوطني لم تكن له استراتيجية واضحة فيما يتعلق بحسم القضايا العالقة المتبقية من اتفاقية نيفاشا بالإضافة لما استجد من مسائل منها ما كان في الحسبان ومالم يكن في الحسبان وفي غياب هذه الاستراتيجية وانعدام الشورى التي يشتكي منها أعضاء المؤتمر الوطني وقادته تتباين الآراء والاجتهادات ومن ثم يكون الاختلاف والصراع، هذا الصراع الذي أصبح ظاهرا للعيان بين أهل المؤتمر الوطني ليس بين الحمائم والصقور كما يقال ولكن امتد للجميع بحيث أصبح صراعا بين مراكز القوى وهذا هو الداء الذي يقود لنهاية الأنظمة الشمولية وقد اشتد هذا الصراع مؤخرا عندما أعلن رئيس الجمهورية عدم ترشحه للولاية القادمة وما قاله رئيس الجمهورية في هذا الشأن مازال محل شك كبير قد يحدث وقد لا يحدث، ولكن هذا القول فتح شهية آخرين لشغل هذا المنصب ومن هنا بدأت المزادات والمزايدات داخل المؤتمر الوطني فأخذ البعض في تقديم نفسه كبديل للسلطان للولاية القادمة ومنهم من استغل موقفه القيادي في الحزب او الحكومة او المؤسسة التشريعية ومنهم من رأى ان الأمر يحتاج الى جسارة على السلطان فأخذ البعض يتحدث عن تراخي السلطان عن فريضة الجهاد وان قراراته غير حاسمة ومفاوضيه دون المستوى المطلوب وخاصة فيما يتعلق بالتفاوض مع دولة الجنوب وان السلطان يتهاون في مواجهة دولة الجنوب وان نيفاشا كانت خطأ كبيرا لابد من تصحيحه وان السلطان أيضا لم يكن حاسما في مواجهة الحركات المسلحة ومنهم من قال ان اتفاقية الدوحة حبر على ورق وانها والعدم سواء وانها السبب الأساسي في ظهور متمردي (كاودا). ويرى هؤلاء لابد من الضغط على السلطان لأنه لم يعد يلتزم بالشورى وانه يتخذ القرارات مع بعض المقربين له، رأى هؤلاء انه لابد من ايجاد سبيل في مواجهة السلطان ولا سبيل لذلك الا بسن قانون ملزم له ولمفاوضيه و لقواته المسلحة فكان مشروع قانون (رد العدوان ) وبرر البعض الذين يحسنون الظن بذلك المشروع أنهم يحاكون (الكونجرس) الأمريكي الذي يصدر القوانين ضد السودان وبهذا فإنهم يحسنون صنعا بيد ان هؤلاء لا يعلمون الفرق بين النظام الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الرئاسي في السودان، فالفرق بينهما كبير حيث لا يلجأ (الكونجرس) لاصدار قانون إلا عند الضرورة القصوى من اجل توجيه موقف الحزبين حتى يتمكن الرئيس من تنفيذ القانون بموافقة المجتمع الأمريكي خاصة في السياسة الخارجية التي عادة ما يكون متفقاً عليها بين الحزبين.
إن رئيس الجمهورية في السودان هو رئيس الحزب الحاكم يستطيع حزبه ان يلزمه بكل ما جاء في مشروع القانون وبالرجوع لمشروع القانون نجده لم يحتوِ على نصوص قانونية فهو لا يعدو ان يكون موجهات سياسية يمكن تنفيذها بواسطة السلطة التنفيذية دون ان تكون نصوصاً قانونية فهو يحتوي على ثلاثة فصول اولها تمهيدي والثاني تعريف للعدوان وما يجب اتخاذه بشأنه وكيفية مواجهة العدوان وما هي الإجراءات التي تتم بشأنه ثم التفاوض والحوار اما الفصل الثالث فهو عبارة عن أحكام عامة وعقوبات وليست هكذا تساق القوانين.
إن هذا القانون احتوى على جرائم دون تحديد عقوبة لها ولم يبين المحكمة المختصة لانفاذ هذا القانون وفيه مسائل تتعلق بالعلاقات الدولية والقانون الدولي وبالتالي لم يحدد المحاكم التي يمكن اللجوء اليها داخليا وخارجيا وبنظرة موضوعية لمشروع القانون نجده عديم الجدوى ولا مبرر له وما احتواه من صياغات عامة هي في الحقيقة منصوص عليها بأحكام في القانون الجنائي 1991 وقانون مكافحة الارهاب والقوات المسلحة وقانون الجمارك وغيره من القوانين ،كما ان بعض التدابير غير الواردة في القوانين فإن الدستور خول لرئيس الجمهورية استعمال قانون الطوارئ لتنفيذ كل ماجاء في مشروع القانون ان وجد مايستوجب استعماله ثم ان ماجاء من مشروع هو عبارة عن افكار غير مرتبة الصياغة تصادم الافكار بعضها بعضا ومعظمها يخالف مواد الدستور ويغل يد رئيس الجمهورية في بعض نصوصه ويتدخل القانون كمشروع بطريقة مباشرة في اختصاصات رئيس الجمهورية وحقه في ادارة الدولة بالطريقة التي يراها مناسبة خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية المتعلقة بحسن الجوار وفق البرنامج الانتخابي الذي خاض به الانتخابات الاخيرة ويقيد حرية الرئيس في التفاوض والحوار بل يرسم له طريقا يجب ان لايحيد عنه وعموما يسلب رئيس الجمهورية كافة سلطاته وصلاحياته التي كفلها له الدستور .
إن الذين دفعوا بمشروع القانون فيما اظن يعلمون كل ماقلته وانهم اعدوه بذلك الشكل لتحجيم رئيس الجمهورية والتدخل في صلاحياته ومنعه من الانفراد بالقرار وهذا يبين بوضوح ان هناك صراعاً داخل المؤتمر الوطني حول السياسة التي يتبعها الرئيس في كل ماورد في مشروع القانون من افكار وغيرها وهذا يعني ايضا ان الرئيس لايلتزم بشورى المؤتمر الوطني ولايضع كبير اهتمام لموجهاته او قدراته وانه مع آخرين يتخذ القرار وانه اما منفردا او مع آخرين يتخذ القرارات دون معرفة معظم قيادات المؤتمر الوطني فرأى البعض تحجيمه بهذا المشروع .
في رأي ان الخلاف داخل المؤتمر الوطني لم يعد خلافا بين تيارين انما هناك عدة تيارات وهذا ماتكشف عنه تلك التصريحات المتضاربة والمتناقضة ويشمل ذلك تفسير القرارات الاممية بحيث يفسرها كل تيار بما يروق لفكرته التي يود ان يسوق الآخرين نحوها بالاضافة للتطلعات الشخصية لشغل منصب رئيس الجمهورية للولاية القادمة في حالة ابتعاده او استبعاده من الترشيح لها وهذا واضح اذ ان رئيس المجلس الوطني يريد ان يجعل للمجلس الوطني دورا سياسيا واساسيا في ادارة الدولة هذا الموقف يذكرني بمستشارية الامن الوطني التي اقترحها صلاح قوش بعد احالته للمعاش من جهاز الامن فرأى ان يخلق من المستشارية جهازا سياسيا وان لايكتفي بان تكون المستشارية مجرد جهاز امني فدعا للوفاق والحوار السياسي وكل ما يهم المؤتمر الوطني كحزب ولما رأى المؤتمر الوطني بأن صلاح قوش قد تطاول عليه وتدخل فيما لايعنيه ويبدو لي انه كان متطلعا لدور ما فأتى عليه المؤتمر الوطني وعلى المستشارية وذهب ادراج الريح واخشى ان يلحق به رئيس المجلس الوطني ومن هم وراء ذلك القانون العجيب . هذا الدور الذي بدأ يلعبه المجلس الوطني يقصد به تجاوز السلطة التنفيذية وهو في عجلة من امره في هذا الشأن كان حريصا على طرد نواب جنوب السودان من البرلمان دون الاجل المطلوب فكان ذلك القرار (بالطرد) هو سبب ايقاف التفاوض بشأن المسائل العالقة اذ كان بالامكان والبرلمان منعقد بما فيه نواب جنوب السودان حل تلك المشاكل والواضح ايضا ان رئيس المجلس الوطني يريد ان يكون المجلس الوطني بديلا عن المؤتمر الوطني وان يجعل منه مؤسسة موازية للسلطة التنفيذية التي يرى انها لاتدير الامور بالطريقة الصحيحة ،فأراد للمجلس الوطني ان يشارك السلطة التنفيذية في رسم السياسات واتخاذ القرارات طالما ان الرئيس ينفرد مع آخرين بإدارة الدولة حربا او سلما ولايهتم بمقررات المؤتمر الوطني ولاتوجيهاته السياسية فيريد بهذا القانون متى ما اجيز ان يغل يد رئيس الجمهورية .
هذا الصراع الذي نراه الآن يضر بالمؤتمر الوطني ويدخل البلاد في حرب مع المعارضة في الداخل وحرب مع دول الجوار ويفتت الجبهة الداخلية التي توحدت عند غزو هجليج ويفتح المجال للتدخل الدولي بموجب القرار (2046) الذي يعتبر بداية لاستكمال التدخل الدولي بموجب الفصل السابع ويكون بهذا قد حققت دولة جنوب السودان ما تريده من ضرورة وجود طرف ثالث في الحوار مع السودان .
إن هذا القانون لو اجيز بشكله الحالي يزيد من أزمة النظام وازمة البلاد ويصبح في النهاية غير قابل للتنفيذ لتعارضه مع الدستور أولا والقوانين الاخرى وعدم وجود المحاكم التي ستقوم بتنفيذه ومزيدا من الأزمة الاقتصادية خاصة فيما يتعلق بتجارة الحدود مع دولة الجنوب ويزيد من معاناة اهل السودان في المناطق الحدودية مع دولة الجنوب وغيرها وخاصة المسيرية الذين لم تتم استشارتهم في هذا المشروع فهم الذين يعنيهم الامر قبل غيرهم ولم يسألوا عن الضرر الذي سيعود عليهم من جراء ذلك القانون ،كما انه من الواضح لم تتم استشارة الوزارات المعنية مثل التجارة والثروة الحيوانية والمالية والتعاون الدولي وغيرها من الوزارات التي يعنيها الامر .
صحيح ان لائحة المجلس الوطني تعطي أعضاءه او أية لجنة من لجانه ان تتقدم بمشروع قانون وهو استثناء من الأصل حيث ان الأصل ان الحكومة هي التي تضع مشاريع القوانين عن طريق وزارة العدل التي لها الخبرة الكافية في صياغة القوانين وتتبع الخطوات اللازمة في ذلك من استشارة أهل الرأي وما يعنيه من امر وأحكام الصياغة ومراعاة القوانين الاخرى والدستور وغير ذلك، لذلك نجد من النادر جدا ان يدفع البرلمان بقانون من عنده الا في حالات شاذة قد لاتتعدى واحدة او اثنتين منذ نشأة البرلمان في السودان فالقوانين لاتسن لمعالجة حالة خاصة او امر عرضي او يفصل على شخص بعينه خاصة اذا كانت هناك قوانين قائمة تعالج ما اشتمل عليه المشروع. في رأي ان هذا القانون متى ما اجيز فإنه لن يصمد امام اول طعن دستوري يقدم بشأنه لهذا أرى انه لامعنى لصدور هذا القانون اذا كان مقصوداً منه فعلا رد العدوان أما إذا كان مقصودا منه الصراع مع السلطان فهذا امر آخر .

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..