أخبار السودان

إيحاء الأمكنة

أمير تاج السر

وأنا أقلب ذهني، محاولا أن أتذكر قراءاتي في الأدب الأجنبي والعربي، وما علق منها في ذاكرتي، كما أفعل من حين لآخر، كتمرين للذاكرة، عثرت على عشرات المدن، موجودة ليس بأسمائها فقط، ولكن بجميع عوالمها، داخل روايات كثيرة، سواء كانت عربية أو أجنبية.
الكتاب هنا، يمسكون بيد القارئ، يقودونه عبر شوارع واسعة أحيانا، وضيقة في أحيان أخرى، يدخلونه مولات التسوق، والأحياء الشعبية والراقية، وبؤر الضجة وجذب السياح، وحتى المواخير والأندية الليلية بكل مواصفاتها، في سياحة أشبه بالسياحة الحقيقية التي يقوم بها أحد داخل مدينة ما.
هذه المدن المذكورة، بعضها يتكرر في عدة روايات، بينما مدن أخرى لا ترد أسماؤها، ولا مرة، رغم ما فيها من ضجيج وصخب، واحتمال أن تولد داخلها القصص الغريبة، وتنمو باستمرار.هذا لا يعني بالتأكيد خصوبة مدن معينة، مقابل جفاف أو عقم، مدن أخرى، فقط، بعض الأماكن تحتاج لوقت طويل من استيعاب تاريخها وحاضرها وحيلها أيضا، والاحتكاك بذاكرتها، حتى تساهم في عمل أدبي.. والمثير في الأمر، ان الكتب الأدبية التي تذكر مدنا بعينها، تمنح أيضا قدرا من التشويق، ليس للقارئ العادي وحده، وإنما لكتاب الرواية أيضا، الذين قطعا يودون التعرف إليها عن قرب، ليكتشفوا إيحاءها وحدهم.
لذلك حين قرأت روايات مثل: «ليلة لشبونة» للألماني أريك ماريا، و»الشتاء في لشبونة» للإسباني أنطونيو مونيوز مولينا، و»بيريرا يدعي» للإيطالي الراحل أنطونيو تابوكي، التي تدور أحداثها أيضا داخلد لشبونة في البرتغال، تملكني إحساس غريب بأنني ربما أضعت شيئا مهما، بعدم زيارتي لشبونة حتى الآن.
ورغم أن تلك الأعمال لا تشبه بعضها في أي شيء، ولا يربط بينها سوى ما وهبته لشبونة من مكان وأجواء وطقوس، إلا أن القارئ يحس بالفعل أنها متشابهة، وقريبة من بعضها.
«ليلة لشبونة» كانت عملا عظيما عن الحرب العالمية الثانية، وما سطرته من مأساة للشعوب الأوروبية، تماما كما تفعل حروبنا في الوطن العربي الآن، من تشريد وقتل، وتدمير للبنى التنموية للدول، وطمس لهويات الشعوب المغلوبة، إنها رواية واضحة ولئيمة جدا في جعل العدو عدوا وكفى، والصديق في زمن الحرب عدوا، أشد ضراوة من العدو نفسه. رواية إنسانية، ومرة، وفيها شيء من السعادة أيضا، لأن العمل الروائي، هو بالضرورة عمل اجتماعي، وأبطاله من البشر، حيث يحتمل حدوث الضحك والابتسام، مثلما يحتمل حدوث البكاء، وأجدني دائما وأنا أتحدث عن ثمار الحروب المرة، أسرع نحو هذه الرواية، ولا أدري لماذا علقت هي في ذهني، وتوجد أعمال كثيرة كتبت عن الحرب، مثل: «المريض الإنكليزي»، لكنها لم تبق في ذهني طويلا.
«ليلة لشبونة» عمل آخر، عمل يتحدث عن الحب والهجر، والوصال، والهجر من جديد. هي قصة ستبدو عادية جدا، لو قصت لنا بأدوات كلاسيكية، بعيدة عن الخيال وتقنية الغرابة التي وضعها الكاتب الإسباني، وواضح بالطبع أن لا جديد سيهز قارئا متمكنا أو حتى مبتدئا، في قصة عازف موسيقي، أحب امرأة متزوجة وأحبته، حين شاهدته يعزف في ناد ليلي، وشاهدها من بين أنفاس البوق، ودخان السجائر. الأحداث بعضها في سان سباستيان، وبعضها في لشبونة، وأيضا هنا تأتي المدينة بعوالمها ومساحاتها المختلفة، لتعطي العمل صبغته.
الجديد في قصة العازف: سانتياجو بيرالبو، والحبيبة لوكريثيا، زوجة بائع التحف التي عشقها، وعادت من برلين للقائه، بعد ثلاث سنوات من الرحيل، هو أن القارئ لا يعرف بالتحديد، في أي زمن من أزمنة القص، هو موجود ويتابع، سيجد القارئ نفسه في عدة أزمنة مختلفة في السطر نفسه، ويستمع لعدة رواة في الوقت نفسه، من دون أن يحس بأي خلل.. يا لتلك التقنية الصعبة وذلك الاقتدار الذي رصفه مولينو، حين حول قصة العشق الباردة المكررة في آلاف الكتب والألسنة، إلى تحفة مضيئة، بعد أن عرج الطريق، وأكثر من المطبات التي تغري بمتابعة السير، أكثر من الإعاقة عن التقدم.. رواية من لشبونة مهمة. ورواية عن إيحاء الأماكن.
«بيريرا يدعي»، أكثر الروايات انتشارا للإيطالي أنطونيو تابوكي، وهي الرواية الوحيدة التي أعتبرها عظيمة في نتاج ذلك الكاتب المتخصص في اللغة البرتغالية، وقضى زمنا في لشبونة، وفهمها جيدا. هنا تابوكي يكتب بطله كتابة سائح في المدينة، وتبرز في روايته رائحة الأماكن ومعمار الحياة، أكثر من الروايتين السابقتين، ويبدو بيريرا، الصحافي الثقافي، الذي يعمل في مهنة غير جذابة، ويعاني من السمنة وأمراض القلب والتعرق، متنقلا من مكان إلى مكان، ومحتكا بكائنات مجتمعية كثيرة، قبل أن ينتهي النص الخصب، بفراره من المدينة، بعد أن نشر فضائح السلطة التي قتلت معارضا في بيته. إنها إذن رواية مغموسة في حبر السياسة، فقط جاءت بفنيات عالية، غطت على الضرر البليغ الذي في العادة تصاب به الأعمال التي تتحدث مباشرة في السياسة.
على نهج لشبونة، نجد مدنا أخرى يلسعها الحكي وتلسعه، نجد باريس ولندن ونيويورك، ونجد عند العرب، بيروت والقاهرة، وحتى مدينة جدة والخرطوم، نجدها أيضا مكتوبة كاملة، وأحيانا ناقصة، وكما قلت فإن الأدب في جزء من وظيفته، تأتي المعرفة، والمعرفة في روايات الأماكن هنا، أقرب للمعرفة السياحية، وأجزم أنني تعرفت على أماكن في مدن عربية وأوروبية، من خلال الروايات، وحين زرتها بعد ذلك، وجدتني أعرفها بالفعل.
شخصيا نادرا ما أكتب اسم مدينة في أعمالي، ليس لعدم أهمية ذلك، فقط لأنني من مدرسة كتابية أخرى، يعتبر الغموض والأسطوري من دروسها الرئيسية.

كاتب سوداني

القدس العربي

تعليق واحد

  1. سحر الأماكن في الروايات ربما شجع الكثيرين حتى من غير الأدباء على زيارة تلك الأماكن سواء كانت مدناً، فنادق، مقاهي، حانات، أو أزقة في مدينة ما. صراحة لم أقرأ أي رواية كاملة للكاتب الأمريكي أيرنست هيمنجواي ولكنني أعرف من خلال سيرة حياته أنه خلد في رواياته مقاهِ وحانات أصبحت قبلة للزائرين من محبيه بعد وفاته. شخصياً كنت أحرص على تناول القهوة التركية بمقهي ريش بوسط القاهرة فقط لأنني قرأت أن نجيب محفوظ يجلس هنا وأنها قهوته المفضلة وأن قريحته لا تجود بشخوص رواياته إلا في ذلك المقهي!! خلد أنيس منصور دار الكتب المصرية بباب الخلق… فكنت أيضاً أحرص إلى الذهاب هناك!

    التخليد ليس دوماً إيجابياً، فهناك تخليد سلبي يسجله كاتب أو شاعر مستاء من المكان المعني…. هناك شاعر هجا بخت الرضا رغم الصورة الذهنية الزاهية التي يحملها سودانيو تلك الحقبة الذهبية عن بخت الرضا بقوله: بخت الرضا ليس الرضاء فيك/ والبؤس باد على وجوه بنيك…. رحل عنا قبل يومين الشاعر السوداني محمد الواثق (كنت لا أعرفه حتى مماته) قيل أنه اشتهر بهجاء المدن، وبالذات مدينة أم درمان…. رحمه الله…. فالتخليد قد يكون سلبياً….. شخصياً أحب لشبونة واتمنى زيارتها فقط لأن جرس اسمها يحرك في مشاعر حميمية لا أعرف سبباً مباشراً لها.

  2. يا سلام عليك استاذنا فعلا عندما قرأت رواية الجنقو مسامير الأرض لبركة ساكن من وصفه لقرية الجنقو تلك في شرق السودان كأنما كنت أشم نتانة ازقتها مختلطة برائحة المريسة المتخمرة.
    قال الدكتور محمد عبدالله الريح ان بعض الأغنيات يمكنك ان تشمها وتذوقها وتراها فضلا عن سماعها……. اذا يمكن ان يخلق الروائي المبدع عالما حقيقيا بمدنه وقراه يمكنك الولوج اليه من خلال اسطره. كنت استمتع كثيرا بقراءة الروايات المترجمة من الأدب الروسي القديم ووجدت ان أكثر ما يجذبني اليها الوصف المفصل لأماكن بعينها وكذلك وصف الفصول الأربعة خاصة الشتاء في سيبريا حيث المنافي والذي يجعلني فعليا احس بالبرد الشديد…

  3. سحر الأماكن في الروايات ربما شجع الكثيرين حتى من غير الأدباء على زيارة تلك الأماكن سواء كانت مدناً، فنادق، مقاهي، حانات، أو أزقة في مدينة ما. صراحة لم أقرأ أي رواية كاملة للكاتب الأمريكي أيرنست هيمنجواي ولكنني أعرف من خلال سيرة حياته أنه خلد في رواياته مقاهِ وحانات أصبحت قبلة للزائرين من محبيه بعد وفاته. شخصياً كنت أحرص على تناول القهوة التركية بمقهي ريش بوسط القاهرة فقط لأنني قرأت أن نجيب محفوظ يجلس هنا وأنها قهوته المفضلة وأن قريحته لا تجود بشخوص رواياته إلا في ذلك المقهي!! خلد أنيس منصور دار الكتب المصرية بباب الخلق… فكنت أيضاً أحرص إلى الذهاب هناك!

    التخليد ليس دوماً إيجابياً، فهناك تخليد سلبي يسجله كاتب أو شاعر مستاء من المكان المعني…. هناك شاعر هجا بخت الرضا رغم الصورة الذهنية الزاهية التي يحملها سودانيو تلك الحقبة الذهبية عن بخت الرضا بقوله: بخت الرضا ليس الرضاء فيك/ والبؤس باد على وجوه بنيك…. رحل عنا قبل يومين الشاعر السوداني محمد الواثق (كنت لا أعرفه حتى مماته) قيل أنه اشتهر بهجاء المدن، وبالذات مدينة أم درمان…. رحمه الله…. فالتخليد قد يكون سلبياً….. شخصياً أحب لشبونة واتمنى زيارتها فقط لأن جرس اسمها يحرك في مشاعر حميمية لا أعرف سبباً مباشراً لها.

  4. يا سلام عليك استاذنا فعلا عندما قرأت رواية الجنقو مسامير الأرض لبركة ساكن من وصفه لقرية الجنقو تلك في شرق السودان كأنما كنت أشم نتانة ازقتها مختلطة برائحة المريسة المتخمرة.
    قال الدكتور محمد عبدالله الريح ان بعض الأغنيات يمكنك ان تشمها وتذوقها وتراها فضلا عن سماعها……. اذا يمكن ان يخلق الروائي المبدع عالما حقيقيا بمدنه وقراه يمكنك الولوج اليه من خلال اسطره. كنت استمتع كثيرا بقراءة الروايات المترجمة من الأدب الروسي القديم ووجدت ان أكثر ما يجذبني اليها الوصف المفصل لأماكن بعينها وكذلك وصف الفصول الأربعة خاصة الشتاء في سيبريا حيث المنافي والذي يجعلني فعليا احس بالبرد الشديد…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..