ردّا على الكاتبة زهور كرام? في قلق المصطلح: سيرة روائيّة أم تخييل ذاتي؟

منصف الوهايبي
Autofiction هذا مصطلح جديد آخر يفد بقوّة على أدبنا، أو هو مبتكر أو مستحدث. وقد ظهر في الغرب، في السبعينيات من القرن الماضي، وكان سارج دوبروفسكي، وهو جامعيّ وكاتب أوّل من استعمله؛ وذاع أمره منذ ذلك الوقت في الأدب والنقد معا، مع ألان روب غرييه وماري دوريوساك وغيرهما؛ ليفيد المعنى الذي ذهبت إليه زهور كرّام في مقالها «من الرواية إلى التخييل الذاتي ـ الغيري «في الهنا» للكويتي طالب الرفاعي»(«القدس العربي» 13 أبريل/نيسان 2015).
ولكنّ المصطلح الذي استأنست به، غير دقيق؛ بل لا نتردّد في نعته بـ»الخاطئ»؛ على ما نبيّن في ما يأتي من كلامنا. كيف نترجم هذا المصطلح «القلق» وهو نحت أو تركيب أشبه بتوليف جمعيّ إذ يجمع بين السيرة الذاتيّة والرواية؟ هو في الفرنسيّة «كولاج» شكلي دلاليّ مأخوذ عن الإنكليزيّة Mot-valise
أساسه الجمع بين شكلين سرديّين متناقضين أو متدافعين بداهة: سرد مبنيّ مثل السيرة الذاتيّة على ذاتيّة الكاتب والسارد (أي الشخصيّة) والإيهام بالواقع، أو بعلاقة ما بين الفنّ والحياة؛ كما هو الشأن في العمل الروائي، حيث المؤلّف يقصّ حياته، وما يدور في خلده من أفكار، ومن عارض أوهام وطارئ بذواتٍ، أو ما تنطوي عليه من غريب الأطوار وعجيب الأسرار؛ ولكن بأساليب الرواية، وباستعمال أسماء محرّفة أحيانا، أو استخدام ضمير الغيبة أو أسلوب الالتفات من عدول من التكلّم إلى الغيبة أو الخطاب أو العكس. وفيها يلتبس «أنا» السارد بـ»أنا» الشخصيّة بـ»أنا» الكاتب». وهو التباس سائغ مقبول؛ وقد لا يخفى أنّ تطوّر فنّ الترجمة الذاتيّة كان من تطوّر فنّ الرواية، خاصّة ما يتعلّق برسم الشخصيّات، والإعراض عن القوالب، والجمع بين طريقة كاتب السيرة وأسلوب الروائي؛ حتّى في نوع من الإغراب أو استنباط دخائل العقل الباطن؛ فقد صار هذا مثل ذاك أوفر حريّة وطلاقة؛ وهو يتنكّب السبل المطروقة.
أدار النقّاد العرب هذا المصطلح على أوجه، بعضها سائغ؛ فقد ترجمه عبد المحسن طه بدر، بـ«رواية الترجمة الذاتيّة» وهو مقترح منه، فيه مقدار كبير من الصواب؛ شأنه شأن مصطلح آخر ذائع هو «رواية السيرة الذاتيّة»، وأقلّ منه ذيوعا «رواية التجربة الذاتيّة»؛ وهو غير دقيق، وأصوب منه «رواية الترجمة الذاتيّةّ». ويشير الباحث السعودي عبد الله الحيدري إلى مصطلح آخر، نحته سلطان القحطاني، وهو» الرواية السيريّة»؛ ويجده مختصرا مغريا؛ ولكن تعوزه الدقّة، لأنّ كلمة «سيرة» تحيل في الأغلب الأعمّ على «السيرة الغيريّة» وليس «السيرة الذاتيّة». أمّا ترجمة زهور كرّام «التخييل الذاتي» ـ وقد لا تكون لها، إذ هي مستعملة عند آخرين ـ فهي حرْفيّة لا تفيد شيئا. ومردّ الخطأ إلى الترجمة غير الدقيقة، وتعريف فيليب لوجون يتحدّث عن نصوص سرديّة أو قصصيّة «تخيّليّة» وليس «تخييليّة»، على نحو ما نجد في كتابه «السيرة الذاتيّة: الميثاق والتاريخ الأدبي»، حيث يوقفنا على أوجه التداخل والتقاطع بين» السيرة الذاتيّة» و»السيرة ـ الرواية» أو «السيرة الروائيّة» على ما في ترجمتنا نحن أيضا من قلق العبارة، بل نحن لا نجد مسوّغا حتّى لـ»تخيّليّة»، لأنّ المقصود هو النصوص النثريّة لا الشعريّة؛ وكلمة» تخيّل» أو «تخييل» تتّسع لهذا مثلما تتّسع لذاك.
تقول زهور:»لقد جنَس المؤلف (طالب الرفاعي) عمله بالرواية، لكنه جعلها- في الوقت ذاته من خلال النص المُرفق في الغلاف « سيرة ذاتية حقيقية». وتخلص إلى هذا الاستنتاج: «وبهذا الشكل، نلتقي بالتخييل الذاتي الغيري، باعتباره نوعا سرديا، يجعل الذات تتخيل ذاتها، لتعيد تأملها واكتشافها، وليس لتوثيقها سيرة?».
والأقرب إلى»فيكسيون» الفرنسيّة Fiction كلمات من نوع «تخيّل» لا تخييل، و»وهْم» و»اختلاق» وما إليها. فضلا عن أنّ من معانيها ـ وهو في الصميم ممّا نحن به ـ «قصّة خياليّة» أو «قصّة متخيّلة». وينهض لهذا أكثر من سند، فـ»رواية السيرة الذاتيّة» أو «السيرة ـ الروايةُ» تلوح من حيث هي تحوّل سرديّ أو قصصيّ يحْرِف بنية الترجمة الذاتيّة، أو ما جرت عليه من أعراف ومواثيق، ويجعلها أشبه بالرواية، سواء في لغتها أو أساليبها وتعبيرها الكنائي، أو في علاقتها بالواقع كما أسلفنا. وفي بعض ما كتبه ألان روب غرييه عام 1984 ما يعزّز من وجاهة هذا الطرح، فقد ساق جملة من الاعتراضات والمآخذ على الأسلوب الذي نأخذ به عادة؛ عندما بتعلّق الأمر بسرد حياتنا. من ذلك مثلا ملاحظاته الساخرة من الأسلوب الذي توخّاه، وهو يقصّ بعض ذكريات طفولته؛ بل ينزع إلى تنقّصه حدّ الزراية به: «عندما أعيد قراءة جمل من نوع أمّي ترعى نومي المستعصي»، أو «نظرتها تربك مُتعي الخاصّة»؛ تأخذني رغبة جامحة في الضحك؛ فقد كنت كما لو أنّني أسعى إلى رسم حياة زائفة?» فالأمر في السيرة الذاتيّة كما لو أنّه محكوم بمطابقة محورها ما هو «منطقيّ منفعل مُلدّن»؛ يقوم على انتقاء وقائع وشوارد، بما يناسب حاجات الكاتب أو رغائبه أو طموحاته؛ حتّى وهو يوهمنا بأنّه يستجلب الشخصيّة/ الشخصيّات على مقتضى «قانون» التداعي أو مجرّد علاقة تقدحها الذاكرة بين الأشياء. فالسرد السير ـ ذاتي، يخون رابطة العقد بين الأدب والحياة، بسبب هذا النوع من الانتقاء الذي يعالجه الكاتب بواسطة الاستذكار، على أُسّ من «قاعدةٍ تمثال»؛ فينسى ما يريد أن ينسى، ويتذكّر ما يريد أن يتذكّر. ويتعزّز كلّ ذلك بخطيّة الخطاب، من حيث هي علاقة محسوبة بين شكل ومحتوى، فيؤدّي تغيّر أحدهما إلى تغيّر في الآخر، يكون متناسبا مع تغيّر محتوى الآخر أو شكله. والسؤال: هل من شأن هذه الطريقة أن تؤمّن للسرد «السير ـ ذاتي» نصيبه من الروائي وعالمه المتخيّل؟ ووجه السؤال أنّ طابع أيّ خطاب مرجعيّ، سواء كان عاريا (من البلاغة) أو مبسّطا، في علاقته بما يفيض به الواقع؛ لا يكفي لجعله تخيّليّا. ولو كان الأمر كذلك، لما أمكن أن نتميّز خطابا أدبيّا من خطاب تاريخي من خطاب علمي. والمسوّغ لذلك أنّ العالم التبس وأشكل على صاحب المعرفة المنظّمة بفعل احتجابه ضمن الاستعارة والمجاز وشتّى ضروب البيان. ومهما يكن فليس ثمّة خطاب بما في ذلك الخطاب العلمي الدقيق، لا يناط بعهدته تخييل فكرة أو صورة، أو لا يستأثر به توضيب استعارة أو مجاز، أو لا يستهويه التقاط كناية أو تشبيه، إلى الحدّ الذي يتعطّل فيه استجلاء الحقيقة أو الهويّة في «صفائها» أو «نقائها» المفترضين؛ لأنّ الحقيقة نشأت بطبيعتها على أنّها حشد من الاستعارات والكنايات وضروب تشبيه الأشياء بالإنسان.
قد يكون بنفينيست خير من نترسّم في السياق الذي نحن به، وهو الذي صرف عنايته إلى الخطاب والتلفّظ والملفوظ. ودونما خوض في نظريّته وهي مبذولة في أكثر من بحث ودراسة، نرصد ما يعنينا منها في السياق الذي نحن به أي ما يتعلّق بالمتكلّم (أنا/أنت) وسمات التلفظ في الخطاب مثل ظرف المكان وظرف الزمان وأسماء الإشارة وأزمنة الفعل التي ميّز على ضوئها بين نظامين يكشفان عن خطتي تلفظ مختلفتين : الخطاب، من جهة والسرد القصصي والسرد التاريخي، من أخرى.
فالسرد التاريخي قوامه استعمال «الماضي البسيط «وغياب الذات المتلفّظة. ومردّ ذلك إلى أنّ مثل هذا القصّ كثيرا ما ينحو إلى استدعاء شخصيّة، من ناحية من نواحي الماضي القريب أو البعيد، مترسّما جانبا من حياتها أو كاشفا عن مطارح أفكارها وخوالج نفسها ولذلك يتميّز بحضور ضمير الغيبة «هو» حضورا مكثفا.
أمّا في تلفظ الخطاب، فينتفي استعمال الماضي البسيط، ويُفسح المجال في الملفوظ، لظهور آثار تلفـّظه: الإشارات الدالّة على ضمير التكلّم وضمير الخطاب (أنا/أنت)، وظروف المكان والزمان (هنا/الآن)، واسم الموصول واسم الإشارة، والفعل المضارع أو «الحال» كما كان يسمّيه العرب، وما إليها من المؤشرات» التي يصعب تأوّلها إلاّ إذا انتقلنا من الملفوظ إلى مقام التلفّظ.
«التخييل الذاتيّ» مصطلح غير دقيق، ويكاد لا يعني شيئا، ومثل هذا النمط من الكتابة السرديّة الهجينة بالمعنى الإيجابي للكلمة، هو أقرب إلى الأداء الكنائي أو «القناع» إذا شئنا، لا يمكن إلاّ أن يتّسم بحضور المتكلّم والمخاطب والمعنى في آن، ولكن في سياق أمسّ بالكتابيّ النثريّ؛ حيث الكتابة نفسها ضرب من تغريب المألوف أو ما يعتقد أنّه الطبيعيّ في حال المنطوق.
غير أنّ القول بفرديْن في هذا النوع من الكتابة السرديّة يثير من المشكلات أكثر ممّا يحلّ منها، ويكشف عن رؤية للّغة لا يمكن إلاّ أن تقود إلى اختزال بنيتها في بنية العالم. وكأنّ وظيفتها الأساسيّة أن تشابه «الغفل» وما لا علامة فيه ولا سمة عليه أو ما هو»خارج القول»، وأن تحاكيه أو تعيد إنتاجه. وهذا موضوع آخر.
كاتب تونسي
منصف الوهايبي
القدس العربي