مصر و”سد النهضة” وخسارة القضية

تابعت كما تابع غيرى الحوارالذى دار فى إجتماع الرئاسة المصرية ببعض رؤساء الأحزاب والشخصيات العامة الاثنين الماضى لمناقشة قضية أزمة مياه النيل بعد قيام إثيوبيا بالبدء فى بناء “سد النهضة”. وإندهشت لمناقشة الحلول الإستراتيجية السرية، كاُطروحات الخيارالعسكرى والفعل الإستخباراتى والتدخل فى الشأن الداخلى ودعم الخصوم السياسيين وتأليب الجيران، بالكثير من عدم الجدية وإذاعة كل ذلك على الهواء مباشرة. ولم أجد ما يعادل ضحالة الأفكار المطروحة إلا الغباء المتناهى فى الإعلان عنها للدانى والقاصى سواء كان ذلك لغفلة تصل حد الإجرام أم عن قصد بدعوى شفافية ليس مجالها قضايا الأمن القومى المصيرية. وكما قالت احدى الصحف المصرية: “المتابع لهذا الحوار من أى مسؤولين دوليين أو إثيوبيين سوف يدرك مدى الضحالة التى تتمتع بها أروقة الحكم المصرية، ومدى الضعف والسطحية فى التعامل مع أزمة غاية فى الحساسية”.
أحد المشاركين نسيت أسمه (وأرجو ألا يذكرنى أحد به) أقترح بكل جدية: “ممكن نطلع اشاعات بان مصر هتضرب السد”. وآخر اعتقد أن الموضوع مجرد قضية “اعلانات” فاقترح الاستعانة بشركة دعاية “أجنبية”. ولكن المتحدث الذى حاولت نسيان اسمه ولم استطع لانه يُعتبر من رموز النخبة السياسية فى مصر فى هذا الزمن البائس فهو أيمن نور. فقد أقترح رئيس حزب (غد الثورة) والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية أن “تنشر مصر اشاعات عن سعيها لامتلاك طائرات متطورة بطريقة استخباراتية لبث الخوف فى نفوس الإثيوبيين”. وليت أيمن نور أكتفى بذلك ولكن وفى عنجهية واضحة حٙكمٙ، وبدون أى تفاصيل، بأن موقف السودان “يٙقرِف” ولم يضف حرفاﹰ ليفسر ما الفعل “المُقرف” الذى أقترفه السودان أولماذا هو “قرفان” وماذا يريد من السودان أن يفعل ليزيل “القرف” عن معاليه. (كلمة “يقرِف” هذه يمكن الآن أن تدخل الموسوعة السياسية للعلاقات الدولية كمثال عن كيف يمكن لكلمة واحدة أن تستعدى شعباﹰ بأكمله). وبين هاتين المحطتين للجهل والصفاقة أبى أيمن نور إلا أن يضيف محطة آخرى للنفاق فقال (ماسحاﹰ الجوخ) للرئيس مرسى: “أنا مبسوط عشان عندنا رئيس مهندس”.
والأدهى أن أيمن نور هذا حاول لاحقاﹰ أن يتملص من كلامه مدعياﹰ أنه لم يكن يدرى أن الجلسة مذاعة على الهواء وهذا ما ينطبق عليه المثل السائد “العذر الأقبح من الذنب”. تُرى ماذا كان سيقول لو عرف بأن كلامه مذاع؟ هل كان سيكذب ويقول شيئاﹰ آخرغير الذى كان يقصده؟ هل كان سيقترح مثلاﹰ إصدار بيان تلتزم فيه مصر بعدم اللجوء أبداﹰ للحل العسكرى “لبث الطمأنينة فى نفوس الإثيوبيين”؟ أو أن موقف السودان “يُشرف ويسر البال”؟ أو أنه “غير مبسوط عشان عندنا رئيس غبى”؟ إن القابلية لتغيير الكلام بتغير المكان والظرف والزمان لا تعنى إلا الكذب والنفاق – او بتعبير أدق – الضحك على الدقون.
واقترح مشارك آخر”استخدام فرق كرة قدم بين مصر وإثيوبيا لإزالة الخلاف”. وبداية بدأ لى أن صاحبنا هذا من شاكلة (برير) فريق الأهلى أو (والى) فريق الزمالك أو (كاردينال) فريق الإسماعيلى مما يجعلك تتساءل عن ما الذى يفعله فى إجتماع لمناقشة أهم قضايا الأمن القومى المصرى. ولكنى ? والحقيقة تُقال – كلما تمعنت فى هذا الإقتراح تبدت لى أبعاده الإستراتيجية الخفية. فالرجل ربما كان يشير عن قصد أوعن غير قصد لما جرى التعارف عليه فى العلاقات الدولية بنظرية “القوة الناعمة” (soft power) وهى بإختصار تعنى كل ما تمارسه الدول الكبرى من تقديم مساعدات إنسانية وغيرإنسانية أو دعم سياسى أو تسهيلات تجارية أو قروض إقتصادية أو تبادل ثقافى أو منح دراسية وكل ما صب فى هذا السياق لكسب ود الدول المُستٙهدٙفة. ولكن نظرية القوة الناعمة هى بالضرورة إستراتيجية “النفس الطويل” حيث لا تؤتِ أُكُلها إلا بعد ما ترضع الدولة المُستهدفة من ثدى الدولة المانحة ما يُمكنُها ليس فقط من الحبو بل المشى وأحياناﹰ الجرى وراء مُرضِعتِها ولا أعتقد أن هذا ما ذهب اليه صاحب إقتراح كرة القدم.
وفجأة طرأت بذهنى سابقة تاريخية قد تفسر مايقصده صاحبنا هذا. ففى اوآخر سبعينات القرن الماضى بعث الرئيس الأوغندى عيدى أمين داده برسالة إلى الرئيس التنزانى جوليوس نيريرى، عندما نشبت أزمة بين بلديهما، يخبره فيها بأنه يحبه ولو كان امرأة لتزوجه. وبالطبع لم يرد نيريرى على هذا العرض غير المُغرى من “التغزل الناعم” ولكن عيدى أمين لم ييأس فعرض على نيريرى تسوية خلافاتهما على حلبة الملاكمة! ولو خُيرّ نيريرى بين العرضين لإختار بغير شك أن يصبح احدى زوجات عيدى أمين بدلاﹰ من أن يلاقيه فى حلبة الملاكمة. فوزن عيدى أمين المُلقب “بيغ دادى” (Big Daddy) كان على الأقل ضعف وزن (المعلمو) نيريرى، بالإضافة الى أنه عمل طباخاﹰ بالجيش البريطانى وأصبح بطل الملاكمة فى أوغندا قبل أن يقفز بالزانة الطويلة رئيساﹰ للبلاد شأنه فى ذلك شأن العديد من الرؤساء الذين أبتلى بهم الله أفريقيا والعالم العربى.
إذن لعيدى أمين داده يرجع الفضل فى إستحداث هذه الاستراتيجية الرياضية والتى ترجع جذورها التاريخية بالطبع لقدامى الإغريق والألعاب الاولمبية. حقيقة ان الفكرة الخلاقة بإستخدام كرة القدم لحل الخلافات الدولية تحمل فى طياتها البساطة والسلمية وسلامة النفس والأعضاء (اللهم إلا ما يستدعى إبراز الكرت الأحمر). ومن الملاحظ أن مقترح الحل الكروى هذا لم يشمل السودان فى الدورى المقترح بين مصر وإثيوبيا ويبدو أنه افترض خروجنا من المنافسة ربما لأن (الحضرى) أستطاع هزيمة المنتخب الوطنى السودانى بمفرده ولم يهتم أحد إخبارنا بذلك.
ولكن فكرة الحل الكروى لاتخلو من التعقيدات والمشاكل حتى لو أقتصرالأمر على مباراة واحدة حاسمة: فإذا أنتصرت مصر فعلى إثيوبيا التخلى عن موضوع السد وإذا كانت الغلبة لإثيوبيا فعلى مصر أن تذهب وتشرب من مياه البحر الأبيض المتوسط. وأول هذه المشاكل هى تحديد مكان اقامة المباراة. لا شك أن المنتخب الإثيوبى سيختار الجزائر ليضمن مساندة كاملة من الجمهور المحلى. أما مصر فخياراتها المحدودة تنحصر فى إريتريا أو جيبوتى وبما أن السند الجماهيرى فيهما ضعيف فقد يراهن المنتخب المصرى على السودان خاصة لو طمأنهم حارس مرماهم طويل العمر (الحضرى) بأن جماهير فريق المريخ، والتى تشكل نصف سكان السودان تقريباﹰ، ستشجعهم. كما سيؤكد لهم ?طويل العمر هذا- أنه شخصياﹰ يستطيع إقناع مجلس إدارة المريخ (“العبطاء دول حاططهم فى جيبى”) بتجهيز (أنطون) محنك وبشراء وإبادة كل السكاكين فى سوق (“امضرمان”) تحسباﹰ لكل طارئ وأن الهدايا الرئاسية من السيارات الجديدة (وعدد لا يستهان به من الخرفان) سوف تكون فى إنتظارهم. والمشكلة الثانية فى الحل الكروى هى إختيار من يدير المباراة، فبينما يبدو ان الخيار الإثيوبى سيتأرجح بين كوفى عنان والأسقف ديزموند توتو فمن المؤكد أن مصر سترشح الإدارى العالمى والحكم الدولى السفير كمال حسن على.
ولكم يا سادتى أن تتصوروا كم كان الأمر مدهشاﹰ و)صادماﹰ( لى عندما جاء فى الأخبار أن الرئاسة المصرية قد قررت ان تنتهج ما يُعرف فى إستراتيجية إدارة الأزمات بسيناريو “تقليل الخسارة بما سبب الخسارة” (lose-lose scenario) والذى بمقتضاه تم توجيه السفارة المصرية فى أديس أبابا بتوزيع كميات هائلة من شريط الفيديو لما دار فى اجتماع الرئاسة التاريخى بعد ترجمته للغة الأمهرية على أمل أن تجتاح إثيوبيا نوبة من الضحك الهستيرى المتواصل تنتقل عدواها – بمشيئة الله والشيخ القرضاوى- كالوباء إلى العاملين فى سد النهضة مما يؤدى الى توقف العمل فيه إلى أجل غير معلوم.
هواجس ساخرة
محمد بشير حامد – ميريلاند
[email][email protected][/email]
قرات تعليقات القراء الكرام الممتعة وكلها تقريباً تتفق فى شجب هذا القرار المجنون. لكن في تقديري انها كلها أيضا لم تعرف السبب الحقيقي وراء هذا القرار الغريب. السبب يا سادة ان المصريين يقفون وراء هذا القرار المفاجئ. المسؤؤل الاول للاستخبارات المصرية كان في الخرطوم أمس واظنه لا زال مرابط هناك ينسنس للبسير والكيزان يجرجرهم للدخول في حرب مع الجنوب ومع اثيوبيا للمحافظة على مصالح مصر في مياه النيل و لاجبار الجنوب عدم التوقيع على معاهدة عنتيبي لدول المنبع , واجبار اثيوبيا ايقاف بناء سد النهضة. تريد مصر ان يدخل السودان في حرب مع الجارتين بالوكالة عن مصر لتحقيق مصالحها على حساب السودان , مقابل أن تقف مصر مع البشير ضد المحكمة الجنائية وتدعمه ضد الجبهة الثورية. هذه هي استراتيجية مصر القديمة: دعم النظم العسكرية الاستبدادية التي تقوم بدور مخزي في اهدار حقوف الشعب السوداني تحقيقاً للمصالح المصرية. ما لم يدركه المصريون ان هذه الاستراتيجية الاستعمارية والوصاية المصرية على السودان صارت امرا مكشوفا للسودانيين , واعتقد جازما ان السودانيين سوف يقفون مع الجبهة الثورية ومع الجنوب ويدعون اموقف ثيوبيا ببساطة لأن هذا هو الموقف الصحيح الذي يقفه اي عاقل ليحقق لهم مصالحهم. وقوف مصر مع هذا النظام الدكتاتوري مرة اخرى سوف يؤكد استراتيجية مصر العدائية لمصالح الشعب السوداني وسوف تكون ذات ابعاد كارثية على مصر , حين يقف الشعب السوداني مع الجبهة الثورية والجنوب واثيوبيا لتحقيق مصالحهم التي تعاديها مصر , وبذلك ينكشف ظهر مصر لاسرائيل ااتي تنتظر هذه الفرصة لتعمل الباقي. مشكة مصر انها دائما تقف مع الحكومات العسكرية الدكتاتورية ضد مصلحة الشعب السوداني , تراهن مصر على الحكومات غير الوطنيةولا تبني علاقات مصالح مشتركة مع الشعوب وسوف تبحث الشعوب في حوض النيل اين تتحقق مصالحها بعيدا عن مصر التي تسعى دائما لتحقيق مصالحها على حساب الآخرين.
هكذا يكتب استاذة العلوم السياسية, دون ألقاب ودون ضوضاء فى “الفارغه والمشتغله” كما يفعل استاذة الجامعات دون مستوى علمى وحاملى الدرجات العلمية المشبوهه.
مقال جيد استمتعت به كثيراً. لقد دأبت مصر على تحميل السودان فواتير طموحاتها الاقتصادية الداخلية وتفلت سياساتها الخارجية.
1- وهبنا لها لله أراض سودانية عزيزة علينا غنية بالآثار التاريخية لتقيم عليها بحيرة السد العالي، وتم تهجير أهالي تلك المنطقة في أكبر عملية خروج لشعب في التاريخ بعد الخروج الكبير لقوم موسى.
2- قاطعنا إسرائيل في عام 1967م من أجلها، وما تبع المقاطعة من أضرار اقتصادية على السودان كان أولها إيقاف المعونة الأمريكية من السودان وتوقف العمل في شارع الخرطوم- مدني. والغريب في الأمر أن السودان أغلق مصنع الكوكاكولا (الإسرائيلي!!) بالخرطوم- كان من أوائل مصانع الكوكا في أفريقيا- واستمر مصنع الكوكا المصري يعمل في الخفاء.
3- وقفنا مع مصر في خيار سلام (كامب ديفيد) وعانينا الأمرين من هذا الموقف إذ عانينا من قطيعة عربية أضرت بالاقتصاد السوداني أضراراً بليغة ولم ننل أي تعويض نظير تلك الخسائر.
4- عندما اختار السودان أن يقف مع (صدام) أي رفض خيار (التدويل)، لم تحترم مصر حسنى مبارك ولم تُبرر على أقل تقدير هذا الخيار بل ألبت علينا العرب جميعاً، وخسر السودان من المقاطعة العربية التي اتسمت هذه المرة بالعداء والكراهية والمقت والعنصرية- وصف صحفي كويتي شهير للسودانيين بالعبيد- أكثر من ما خسره في كل المواقف السياسية التي اتخذها في تاريخه. ويكفي أن (السوداني) لا يجد حتى اليوم كثير احترام في دولة الكويت، رغم أن غزو صدام لها أصبح من أحداث الماضي، إلا أن (الكوايتة) لم يزالوا يحاكموننا من منظور هذا الماضي.
5- وهاهي مصر الآن تحاول تحميل السودان (جريرة) بناء أثيوبيا لسد النهضة، وكأن فكرة السد هبطت فجأة من السماء مع مائدة سيدنا موسى عليه السلام.
هناك حل آخر ياأستاذ محمد بشير أنا مستغرب كيف فات على فطنة شمال الوادى وهو بأختصار:
يرسلوا ليهم عادل امام عشان يسليهم ويضحكم شوية فتقوم الحكومة الأثيوبية بصرف النظر عن بناء السد وهم مبسوطين آخر أنبساط .
الله يرحم فريد شوقى ومحمود المليجى لأنهم لو كانوا أحياء اليوم لحلوا المشكلة عضل.
فراعنه