عبد الله عبيد أحمد: يالقدمه الذهبية، يالفدائيته اليسارية

(رحل قبل أيام رفيقنا عبد الله عبيد أحمد إلى دار البقاء. تحاببنا بعد اختلافنا الشديد خلال انقسام الحزب الشيوعي في 1970 لنترك كل ذلك من ورائنا بصورة عجيبة. وأصبحنا أكثر من أخوان. تحدثت إليه في أول أيام عيد الأضحى وتطايبنا. ثم لم يقل أحي يالعافية بعدها. دخل في كوما لم يفق منها. والغالي هول ربو.
تقع عنايتي بعبد الله في إطار مباحثي كمؤرخ، لا كشيوعي، عن جيل الخمسينات اليساري الذي بنى بفدائية فذة حزباً من طراز فريد هو الحزب الشيوعي. وصفت الواحد منهم من فرط تضحيته بالوظيفة للتفرع لبناء هذا الكيان الوطني للكادحين ب”الأفندي المضاد”: منتوج لم يستعد لخطره نظام التعليم الذي هدفه تفريخ أفندية فعلة لدولاب الدولة. ووصفتهم بالفراشات تحترق من أجل القضية ولم يطر منهم الشارب ولم يغلظ الصوت. وما أزال أعجب كيف اكتشفوا هذا الطريق الخطر، فلزموه،فتفرقوا في أرجاء الوطن يفتحون جبهات العمل بين الغبش بالحفاظ المر.
وأريد في مناسبة فقد الرجل العذب، بسام العشيات، أجمل شباب الشيوعيين في الخمسينات قاطبة، الكاتب الرياضي، أبو د. حازم البَر، وصديق ميرغني حسن على الفذ، أن أشرككم معي في مذكرات أخذتها عنه منذ أعوام وهو يكرمنا بسمك السماكي الذي يؤجر بعض داره بالثورة. وركزت في حديثي معه على جانب كرة القدم والسياسة في حياته.
انعقد في آخر 1954 اجتماع لسكرتارية الحزب الشيوعي بمدينة عطبرة لينظر في بند عجيب. فكان على الاجتماع أن يقرر إلى أي أندية عطبرة سينتمي زميلهم عبد الله عبيد (1929) الذي جاء من الخرطوم متفرغاً شيوعياً بالمدينة. وربما أهم من ذلك أنه كان لا عب كرة قدم من الطراز الأول. فلعب لفريق مصلحة وزارة الزراعة لتفوز بكأس الحاكم العام في أوائل الخمسينات. كما لعب للموردة ثالث فرق العاصمة. وترك بصمته الشيوعية على جمهور الفريق. فما أخفق في مباراة إلا وجد ذلك الجمهور تفسيراً لخيبته في شيوعيته. ففي مباراة للموردة ضد النجم الأحمر الروسي كان عبد الله غير موفق بالمرة. فأضاع فرصة مضمونة لتسجيل إصابة. وخسرت الموردة وغضب الجمهور عليه. فعلق عثمان طه، المشجع المستميت للموردة: “هي الموردة تغلب كيف إذا كانت لاعبة بعشرة لاعبين والروس باتناشر لاعب؟”. ولمّا فسدت رمية ركنية مما اشتهر بها صرخ عباس دياب، المشجع الكبير للموردة: الداير يلعب كورة ما بساهر الليالي في كتابة الشعارات”.
سبقت شهرة عبد الله إلى عطبرة. وبدأت الأندية تتطلع إلى تسجيله. وأخذت تضغط بالذات على أعضائها الشيوعيين ليحملوا الحزب على توجيه عبد الله لضمه إلى ناديهم دون غيره. وصار الشيوعيون فرقاً وتَلَّبد مناخهم بغيم هذه الفتنة. وانعقد اجتماع قيادتهم لحسم الأمر. وما بدأ النقاش حتى تحزب الأعضاء كل حسب ناديه أو من أثر عليه من جمهور الأندية. وطال الجدل فتدخل الأمين أبو، المسؤول السياسي، قائلاً: “يازملاء لن نخلص الليلة لو كل زول جاء مسبقاً بالنادي المفروض ينضم له عبد الله. حيكون علينا حال سلخ الناموسة. الحل عندي أن يتجه النقاش بوضع مصلحة الحزب فوق اعتبارت الأندية الضيقة. لنبدأ بالسؤال: أين تقع مصلحة الحزب بتسجيل عبد الله لأي من الأندية المقترحة؟ كيف سيبدأ أو سيتسع نشاط الحزب في النادي المعين وفي الحي الذي به؟ هذا هو الطريق السليم في رأيى لاستثمار عبد الله سياسياً”. وبدأ النقاش الرياضي المطبوع إبراهيم عثمان، ومسؤول التنظيم بالحزب، مستعرضاً فرق الدرجة الأولى بالمدينة من زاوية كسب الحزب فيها. فأنتهوا إلى قائمة من ثلاثة أندية مرشحة لنيل عبد الله وهي النسر والنيل والشبيبة. وفاز النسر به في قرار الحزب على ضوء حيثيات منها أنه من أعرق الفرق الرياضية بالمدينة، وتكون في خضم المد الوطني الذي تحسس أوصاله بعد هزيمة ثورة 1924. وأهم تلك الحيثيات أن له قاعدة مشجعين عمالية عريضة، وهو أول ناد بنى داره الخاصة بالتنفير خلال إضراب عمال السكة حديد في 1948 الذي دام 33 يوماً وشارك فيه وجوه النقابة من كل التيارات. وصادف ذلك القرار هوى في نفس عبد الله التي مالت أصلاً للنسر. واختير عبدالله لمنتخب عطبرة مع جماعة أخرى من النسر. ثم اختير مع لاعب آخر من النسر ليلعبا في منتخب السودان ضد الفريق الاثيوبي في الخرطوم في كاس أفريقيا ثم في مباراة الرد في أديس أبابا.
أما عن تأثير عبد الله السياسي على نادي النسر فقد كان كبيراً بحسب رواية وراق طه نصر الدين عامل النقاشة بالسكة الحديد وزميلي في عضوية نادي الوادي بحي الداخلة. وهو ناد اشتهر بقوة النفوذ الشيوعي في وسط حيه وقيادته. قال لي مرة في الستينات: “والله الشيوعيون قلبهم أسود شديد. نادينا هذا أكبر نادي شيوعي. إذا جاء أفندي مقطوع طاريء من سقط ملقط أشركوه معانا. لما جاءتهم نوارة كرة قدم واحدة سجلوه في النسر. هذا لؤم كبير”. ثم صمت وقال:”لكن “الزناقد” (ألزمني النص بها) مما جاءهم عبد الله برموا أشناب إستالينة”.
اللهم أزمنا الصبر بعده، واكتنفه بالطل والشآبيب، وتقلب به في عالي جنانك في زمرة رفاقه من يسار الخمسينات الذين لهم “في خدمة الشعب عرق”.
[email][email protected][/email]
【الله أزمنا {الزمنا} الصبر بعده، واكتنفه بالطل والشآبيب، وتقلب به {وتقبله} في عالي جنانك 】
الهم آمين.
من من جيل اكتوبر ينسي ” من طرف الشارع “؟ عبد الله عبيد رمز لمرحلة نيرة وسيصنفه التاريخ.
السهل العصي الممتنع. اطرف واعمق ما نقرأ.