قـراءة في تدعيات يحيى فضل الله (مرثية غير معلنة).

بسم الله الرحمن الرحيم
قـراءة في تدعيات يحيى فضل الله (مرثية غير معلنة).
عروة علي موسى
[email][email protected][/email]
كثرة هي الأقلام الرائعة التي يحتنضها المنفى ، ويحيى فضل الله واحد من أؤلئك ، ولن أزيد فهو كاتب وشاعر وقاص ودرامي متفرد …
هذه هي مرحلة مهمة جداً من مراحل الأدب السوداني وتحديداً يمكن أن نسميها (أدب الشتات) ذلك الشتات السوداني الذي تفرق بفعل فاعل إلى أصقاع الدنيا ، ويمكن تشبيه هذه الحالة بحالة أدباء المهجر (الشاميين) ولكن يعدمنا شيء مهم للتواصل مع (أدب الشتات) ذلك هو أنه ليس بأيدينا (داتا) توجيهية نستطيع من خلالها أن نتعرف على الكم الهائل من مبدعي بلادي الذين خرجوا من قبل وازدادت أعدادهم منذ بداية التسعينات ؟!وأماكن تواجدهم ، وكيفية الوصول إلى ما يقدمون من إبداع رغم المحاولات التي نقوم بها للتواصل معهم عبر شبكات الإنترنت ؟!
ولتخليص حالة الشتات هذه وأثرها يمكن القول إن (مصطفى سعيد) ساعتها كان محقاً حينما أوصى (الراوي) أن يجنبنا مشقة السفر ، لأنه خبر الشتات والضياع !
يمارس يحيى فضل الله في هذه القصة سرداً يأخذ تفاعله من محورين : الأول : محور اليومي المفضوح أمامه والذي يعايشه ويحس به ، والمحور الثاني : محور ذاته الساردة أو المسرود عنها (بفعل فاعل) في مجابهة الحرمان والقهر والإذلال ، فيعمد إلى وصف التراجيديا بلغة الوصف ليدلف بنا إلى رؤيته المأسوية الخاصة ، فهذه القصة / السرد تقف بنا على الفعل اليومي الخاص بذات القاص (كحالة المعاناة في الحصول على مصدر الدخل من تلك الوظيفة الشاقة ، ولكنها كاشفة لأشياء تتبين فيما بعد … وخلال هذا السرد لا ينسى القاص ذات الآخرين (كحالة المريض الذي كُلف بحراسته ) كان يمكن أن ينسى القاص ذلك المريض تماماً ويبدأ في إمتاعنا بوصف شيق لليل الأبيض حسب قوله ، وللغربة والمعاناة ، وأن يجعل من ذاته شيئاً فريداً ليس مثل بقية الناس بما يملكه من أدوات اللغة والوصف ومعرفته بالدراما وغيرها ، لكنه يأبى ذلك ويحول جل إبداعه لسبر أغوار تلك النفس البشرية التي كلف بحراستها رغم يقينه أن تلك المحاولة منه محفوفة بالمخاطر إذ أنه يتعامل مع مريض نفسي .
بذلك المنحى الذي أتخذه يحيى فضل الله يكون قد خلق من قصته / سرده دلالة وجودية وحس لغوي عال وتركيب منظم جعل القصة تتهادى وتنتشر بشكل مؤثر لمن يقرأها ، فيمسك بتلابيبها حتى النهاية ، ولا يستطيع فكاكاً !
ولما كان الأدب في حد ذاته ممارسة ممتعة تهدف إلى إعادة ترتيب الواقع المعاش وفق نمط إبداعي يرسم القاص طريقة بنائه وتزويده بالخيال، فإن التشويق فيه شيء لا بد منه ، فمن أجل ذلك نجد أن يحيى فضل الله عمد إلى حقن قصته بالتركيز على وصف الحدث (الذاتي / والآخر) لنراها متسعاً من الإثارة والتحفيز ، فنجد أنفسنا أكثر ارتباطاً بمعرفته أوقات دوريته وعدد ساعتها وموعد بدايتها ونهايتها ، وكذلك نكون لصيقين (بالآخر) لنعرف كنهه وسر (النوم الجنيني) وما وراء اللون الأسمر ، ومصير نظرات الريبة والشك في عيون (الآخر) ، وقد نجح القاص في ذلك ، ونجح أيضاً في الخروج من دائرة المباشرة والتقريرية بتنظيمه للأحداث والشخوص (رغم قلتها) ، والتشكيلات الإحداثية زماناً ومكاناً، وأن يختار من المفردات والدلالات ما يأخذ النص إلى فضاءات متعددة ، فلا نراه يعتمد التزويق لنصه بل كان جل همه في ذلك النص أن يكون قريباً من الإنسانية كـأنه يريد أن يقول : (أفعل ما تقدر عليه وفق ما تستطيع ، فلعلك تنقذ إنساناً يحتاج إليك) فخلو نص يحيى فضل الله من كذا استعارات رمزية مكَّنه من أن يمسك بزمام السرد بعناية ليصل به نحو الهدف.
تفتق ذهن القاص بعد محاولات عديدة ـ لمساعدة مريضه ـ عن فكرة بناءها على حب (الأحباش) لغناء الراحل المقيم (محمد وردي) فطفق يردد في :
((ما تخجلي
ياالسمحه
قومي
إستعجلي
شفقتي قلبي
كل يوم تدللي
أديني كلمة
و سامحيني واعذري))
والسؤال هنا : هل حشر القاص هذا النص الشعري الغنائي حشراً بين نصه القصصي ، أم أن ذلك النص له وظيفة دلالية لخدمة النص السردي ؟
ويقيني أن القاص هنَّدس لذلك وأراده ، وحتى نصل إلى ذلك اليقين علينا ملاحظة الآتي :
1ـ إن القاص لا يعدم أن يأتي بنص شاعري من ذاته ، ويستثمره في أدائه السردي لما نعرف عنه من إجادته لقرض الشعر.
2ـ إن اختيار القاص لهذا النص الغنائي جاء مناسباً ومفيداً في آنٍ واحدٍ للخروج من عقدة القصة إلى فضاء حلها وكسر عناد ظرفها الذي أحس القارئ لوهلة أنه غير ميسور عبوره !
3ـ انحياز القاص إلى فن وطنه وبهذا أراد إرسال رسالة هي أن الفن والاهتمام به لا يقل درجة عن الاهتمام بالتعليم والصحة والغذاء .. ويضاف إلى ذلك ان القاص أراد أن يرثى ذلك المبدع بجعله سبباً رئيساً في فك شفرة هذه القصة مما حداه لعنونة قصته ب( تداعيات مرثية غير معلنة) .
4ـ وهذا هو الأهم ، حيث أن سماع الأصوات المطربة لدى النفس البشرية توجب لذة قوية يتفاعل معها العقل، كما أنها تحرك مكنون النفس إلي من تهوى كائناً من كان ، في زمان ما وما مكان ما، فبالاستماع إلى غناء من فضاء (ثقافتك) يتحرك الإنسان ويتشوق ويتنبه عقله فيعود إلى ممارسة ما مضى تخيلاً ورغبة وطلباً للشيء المحبوب الغائب عنه ، ومحاولة إدناء صورته إلي القلب واستيلائها علي الفكرة خالقةً لذة عظيمة تقهرُ العقل والواقع ، وهذا الذي هو حدث لمريض كاتبنا ،فوجد لحظة للوصال مع ماضيه ، ولا ننسى أن الأغنية لها من الشهرة الكثير وسط مجتمع مريض كاتبنا ، ونتيجة لذلك، نشأ ضرب من التوافق بين غياب عقل مريضنا، وبين الحالة المسيطرة عليه / علينا وصوت القاص يسرى فينا حاملاً معه ذكرى لحن جميل أبدعه فنانا المتميز محمد وردي ـ رحمه الله ـ
وأخيراً نجح القاص في قصته ، وفي خلق المتعة في نفوسنا ، وفي مقدرته على إجبارنا التعاطف مع مريضه ليصبح مريضنا ليجسِّر تلك العلاقة بالنغم الشجي الذي ذكرناه ، كأنه أراد القول: ( إن الموسيقى تتبع الأنهار) .
عروة علي موسى ،،،