مقالات سياسية

مارد خرج من قمقمه.. بأي وعود تعيدونه؟

يمر الإخوان المسلمون هذه الأيام بأسوأ حالاتهم النفسية على الإطلاق. فالشعب الغلبان، كالمارد خارجاً من قمقمه، يضيّق عليهم الخناق في كل مكان. وخلافاً لما يحدث في قصص ألف ليلة وليلة، حيث يُستدرج المارد للعودة إلى القمقم ببعض الحيل الماكرة، فإن مارد الشارع السوداني يستعصي على التطويع. إذ لن يكف عن زمجرته مهما عرضت الإنقاذ عليه من وعود سخية، لا سيما وقد تبددت ثقة المواطن في حكومة درجت على الكذب والمكر والدهاء. فلا جدوى من استدراجه واسترضائه بدعوى توفير الخبز، واختفاء صفوفه. ذلك أن الشارع لم ينتفض من أجل الخبز أبداً، ومن ثم سيهدأ متى توفر الخبز. إن التضحيات التي قدمها الشعب حتى الآن، وقد تجاوزت العشرين شهيداً وعشرات الجرحى ومئات المعتقلين، ليست مهراً من أجل الخبز، بل هي مهر الحرية والانعتاق من نظام أقعد البلد في الحضيض بعدما كبل مقدراتها وبدد ثرواتها وشلّ عجلة اقتصادها وتاجر في دينها الفطري السمح.
في ظل أوضاع متردية تردياً لا مزيد عليه، فإن المواطنين، وبشتى قابلياتهم المعرفية، يدركون أن المشكلة مشكلة هيكلية تتجسد في طبيعة الإنقاذ وما تمخض عنها من خلل سياسي وغطرسة ومحسوبية وفساد وتقسيم للبلاد وحروب لا طائل من تحتها. كان واضحاً أن الإخوان المسلمين، ومنذ سنوات العسل مع جعفر نميري، قد بيتّوا نية الاستئثار بالسلطة وتمكين عضويتهم على حساب الآخرين. بدأت عملية التمكين بالبنوك الإسلامية وما تقدمه من قروض ومساعدات سخية لعضوية الجبهة الإسلامية القومية، إلى درجة أن بعض كوادرهم قد أثروا ثراء فاحشاً حتى قبل انقلابهم في 1989م. وأدى هذا التمكين إلى تجذر جماعة الإخوان المسلمين في الأجهزة العسكرية والأمنية ومرافق الحكومة، كما في القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والجامعات والمساجد وحتى الأحياء.
هذه الناحية من تجذر الإخوان في الأجهزة المتحكمة في زمام البلد تجعل مهمة الحكومة المقبلة مهمة شاقة لدرجة يتعذر التنبؤ بها مسبقاً ومن ثم وضع التحوطات اللازمة لتذليل ما يمكن تذليله من جوانبها وتجلياتها. فمن الواضح أن الحراك الشعبي يمضي قدماً في اتجاه تفكيك حكومة الإنقاذ تفكيكاً كاملاً. معنى ذلك، عدم قبول أي مساومة تطرح بشأن أي ناحية من نواحي استلام السلطة من الإنقاذ، بما في ذلك عدم قبول مشاركة الإنقاذ في مرحلة ما بعد الإنقاذ، سواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، بما من شأنه التأثير على شكل ومضمون وفاعلية الحكومة الانتقالية حسبما تضمنته مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم، وهي مبادرة ذات مهنية عالية ومصداقية وافية. بيد أن وصفها بالمهنية والمصداقية لا يقلل على الإطلاق من الدور الحيوي الذي يضطلع به تجمع المهنيين في قيادة الحراك وتوجيه مساراته بحنكة تامة.
أهل الإنقاذ اليوم، وعلى رأسهم الرئيس البشير، يخبئون أنفسهم من الجماهير الثائرة. البشير من جهته يركن إلى الظهور أمام رجال الشرطة في احتفالهم بأعياد الاستقلال. إنه يبدو كالثور المحشو ببروتين صناعي، إذ بدا لامعاً في حلته العسكرية، لكنه يرتجف من الداخل خوفاً من مصير محتوم ووشيك بعدما تكاثفت نذر الشؤم في الأفق المنظور. فهو يرتعد من احتمال وقوفه أمام المحكمة الجنائية الدولية، ناهيك عن المساءلة الداخلية عن حروب وقروض وفساد. ختم حديثه بالآية: «ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلكم تتقون»، وكأنه يطلب من شرطته الاستماتة في الدفاع عنه مهما كلفها الأمر من قتل للشعب بلا هوادة. وكان من باب أولى أن يتذكر أن القصاص مطلب عادل لجبر خواطر أهلنا في دارفور، وخواطر السودانيين كافة، بل والعالم قاطبة، إزاء الجرائم التي اُرتكبت بحق هذا الإقليم المكلوم وأودت بحياة ما يزيد عن ثلثمائة ألف حسب الأمم المتحدة، أو مائة ألف حسب قول البشير نفسه. لكن البشير ينتقي آيات القرآن لتطبيقها جزافاً على من يشاء ووقتما يشاء.
أما خطاب البشير في الذكرى الثالثة والستين للاستقلال، فقد كان وثيقة أعدت على عجل، وربما جاءت العجلة من تسارع وتيرة الأحداث التي أملت على كاتب الكلمة محاور مستجدة تتفق مع سياق متجدد. قال البشير عن ميزانية العام الجديد إن التركيز فيها سوف ينصب على تخفيف المعاناة عن كاهل المواطن وأن لديهم من الخطط ما يخرجهم من الأزمة الاقتصادية الضاغطة. من الواضح أنه بذلك إنما يستجدي الشارع ليمتنع عن الخروج في مظاهراته المستمرة قرابة الأسبوعين. لكن هيهات! فقد فاض الكيل، مرة ومرتين وثلاث بل مرات عديدة. فإذا لم ينصلح الحال عبر ميزانيات سنوية ممتدة منذ 1989م، فهل تصلحه ميزانية سنة واحدة بالغاً ما بلغ مستوى الصرف والسخاء فيها على المواطن؟
قلنا إن الإخوان المسلمين يخشون الشارع وحراكه التلقائي الجسور. يعد ذلك درساً لن ينساه الإخوان. فحكم الشعب السوداني ليس نزهة على شاطئ النيل في ليلة قمراء. فلقد طالما تحلى السودانيون، كعهدهم، بصبر منقطع النظير وتحملوا سواءات الإنقاذ طوال ثلاثين سنة كالحة، لم يتلقوا فيها سوى الوعود الخادعة والكذب الأشر. فعلى امتداد فترة حكم الإنقاذ، ظلت الأوضاع المعيشية تتفاقم سوءاً. التضخم وصل معدلات قياسية إذ تجاوز 68٪ حالياً. وتفشت البطالة في أوساط الشباب تفشياً مزرياً، وتحول التعليم إلى سلعة تباع وتشترى في المزاد العلني، وامتدت طوابير الباحثين عن هجرة أياً كان مردودها، واضطر المرضى للسفر من أجل العلاج في الخارج، بمن فيهم رئيس البلد ذاته!!
وليس مظنوناً أن يقبل الشعب بأي محاولة لتجميل الإنقاذ أو إعادة تدويرها، كيفما كانت مسوغات ذلك. فعقب كل هذا النضال المتطاول، والتضحيات الجسام والحروب العبثية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، ليس من الحكمة أن يصار إلى أنصاف حلول. أما حزب الإصلاح الآن، ومن معه من أحزاب، في طرحه لمبادرة تشكيل حكومة انتقالية فإنه ليس إلاّ الإنقاذ في صورة باهتة، فهم من أوائل المنتفعين من التمكين. وكان خروجهم من الإنقاذ احتجاجاً على تدني نصيبهم من كعكة التمكين. وجميعنا يدرك لكم كانت عاقبة التمكين وخيمة على البلد وعلى الإنقاذ ذاتها، وقد أفضى بها ذلك في المحصلة إلى فشل ذريع سيلاحقها على صفحات حوليات التاريخ السوداني.
أما الثورة الشعبية فينبغي أن تواصل مسارها حتى الشوط الأخير الذي يتمثل في عصيان مدني يحدث شللاً كاملاً في أجهزة الدولة وتضطر معه الإنقاذ للخروج من معادلة السلطة. ورغم الأمل الذي يحدونا جميعاً، فليس من الحكمة استسهال التغيير المقبل في السودان. إن ثلاثين سنة من حكم إقصائي فاشل بغيض تمثل عقبة كأداء في طريق أي حكومة تناط بها إدارة شؤون البلد للخروج به من النفق المظلم. فالديون الخارجية وحدها، على سبيل المثال، تحتاج تحركاً ذكياً وفورياً يؤدي إلى الجلوس مع الدائنين واقناعهم بإلغاء هذه الديون باعتبار أنها من نوع ما يعرف بالديون البغيضة (odious debt) التي وضعت على كاهل شعب دون موافقته، من جهة، ودون أن تعود عليه بنفع، من جهة أخرى. وهي فوق كل ذلك قد ارتبطت بفساد كبير.
ياسين حسن ياسين <[email protected]

‫2 تعليقات

  1. الاستاذ / يسن– لكم التحية وكل عام وانتم بخير وشكرا لقلمك السيال وحسك العالي — ربما سمحت لي بتذييل ايضا :الإنقاذ أكلها الجنيه السوداني وقضمها التجنيب وخربها التمكين
    ولله جنود يسلطها علي الظالم ومن غزل أيادي سلطة الانقاذ خرج التضخم ماردا عملاقا يعصف بالجنيه السوداني ولا تحوش قيمته أطنان الأوراق التي تطبعها الإنقاذ في مطابعها المعلنة العنوان أو تلك التي بحوزة المتنفذين من ( الأخوان) بعيدا عن أعين النشطاء لتسهيل شراء الذهب وتهريبه من بعد وإبداع حصائله في حسابات خاصة والحجة تمويه المقاطعة الأمريكية والحمد في البطن سرقة ثروات الشعب السوداني .
    الجنرال جنيه الذي كان سودانيا أصيلا بعلامة جمل الهجانة ليتحول بفعل الإنقاذ إلي طير أبابيل مسوما لهلاك أرقام موازنة وخطط الإنقاذ وأصبح طفلا ذليلا أمام الدولار بعد أن كان أبا يلد من الدولارات ما يعين المبتعث في بلاد الغربة ويسند المريض في هارلي كلنك.
    ثم تجني علي نفسها الإنقاذ وتطلق من عقالها بدعة التجنيب فتتحول الأموال العامة السودانية إلي حسابات خاصة عند العسكر ورجال الأمن يخلعون الكاكي علامة الإيثار والشرف والعطاء ويلبسون لبوس رجال الأعمال صنوا لرفقة جديدة من غسلة الأموال متعددي الجوزات ومهربي المخدرات في حاويات الذين لا يعرفون لأي تراب ولاء ولا يعترفون بوطن .
    و جاء في التمكين الخراب البين حيث أسندت الأمر الي غير أهله فارتد علي الإنقاذ تطفيفا وحشفة وسوء كيل فيخرج الوزير من أهل التمكين ليعلن الذهب الذهب عقلي قد ذهب وجئتكم بالذهب ما لم يأت به الأوائل فإذا في المساء صرخة كاذبة تضاهي استغاثة كاذبة هجم النمر هجم النمر.
    ويتلبس الأمر علي أهل الإنقاذ فلا يعرفون من أين أكلوا ومتي أكلوا فلله جنود يسلطهم علي الباغي والظالم فيمشي الجنيه بينهم مدمرا صفوفهم ويعمل التجنيب فيهم فعل السحر وتلحقهم لعنات التمكين وإذا بهم يتساءلون ويتلاومون لماذا خرج الشباب وما لهذه الجموع الجائعة لا تقف عند سقف ونردد —– لله جنود

  2. قصة انتفاضة وثورة شباب الشعب السوداني ديسمبر 2018
    إذا قمنا بتحليل مآلات الأمور انطلاقاً من هبة عطبرة وبورتسودان في 19 ديسمبر 2018، فتبدأ القصة بأن الأنجاس الذين تلبوا بليل 30 يونيو 1989م وسرقوا السلطة، ومن خلال سياسة التمكين نفذوا سياسة العزل للصالح العام لكافة موظفي الخدمة العامة واستبدلوهم بحثالتهم وهم لايفقهون شيئاً ولم يكن مطلوباً منهم كفاءات بقدر ما هو مطلوب من ولاء ومع ذلك فقد أظهر هؤلاء الكوادر الجدد كفاءة منقعة النظير في تطبيق سياسة التمكين حيث كونوا نقابات جديدة تحت مظلة التمكين للمستخدمين والمخدمين، ولم يكتفوا بهذا بل لاحقوا المفصولين في أرزاقهم وأعمالهم الخاصة وعملوا جاهدين على التضييق عليهم بشتى الأساليب من ضرائب وجبايات ورسوم فعطلوا من عطلوا عن العمل وخرجت أمهاتهم للعمل بدل آبائهم عملن فراشات وبائعات أطعمة وشاي وخلافه وهاجر من هاجر من الآباء وقضى نحبه كمداً من قضى ولكنهم خلفوا هؤلاء الشباب الذين يقودون هذه الانتفاضة بشتى مهنهم الاضطرارية وأغلبهم خريجو جامعات ولأنهم أبناء المحالين للصالح العام فلم يطمعوا في وظيفة عامة حيث تحولت الوظائف إلى وظائف خاصة بأبناء المتمكنين ولا توجد حتى لجنة اختيار نزيهة أو غير نزيهة فالتعيين يتم فقط بالتزكية من متمكن وهكذا صارت الخدمة المدنية دولة بين المتمكنين خدمة خاصة لأبنائهم ومحاسيبهم وقنع أبناء المعزولين من خير فيها فانصرفوا إلى مصادر رزق أخرى متذبذبة وعرضة لكافة أنواع الجبايات والنهب والمخدرات والتسميم والتلويث لزيادة نسبة التخلص منهم بالأمراض والإعاقة والابقاء خارج مظلة التأمين الصحي فمن حيى حيى فقيراً عانساً أو عازباً لايستطيع مجرد التفكير في الزواج وتكاليفه وتكاليف ما بعده.
    لكن حكمة الله بالغة فقد ظن الأنجاس باستبعادهم لأبناء المهمشين والمعزولين أنهم قد أمنوا من يؤتوا من قبلهم خاصة وأن النقابات هي نقابات الموظفين من أهل الثقة ويترأسونها قيادات الحزب، فقد تجمع هؤلاء الشباب بمختلف مهنم وحرفهم التي اختاروها (مضطرين) وتجمعوا في (نقابات) خاصة بهم مطالبها ليست كمطالب نقابات النظام وانما مطالب ضد النظام وسلطته فاتحدوا جميعاً وخرجوا لإسقاط النظام بنقاباته وكافة مؤسساته التمكينية وهم يقولون له نقاباتك بلها واشرب موتها أو الحس كوعك كما كنتم تقولون لنا وتظنون أنفسكم في مأمن مع نقاباتكم، فبدأوا بحرق بمقار الحزب كرمزية لما عقدوا عليه النية من التخلص الكامل من النظام وكإشارة إلى عدم الاتجاه مطلقاً نحو المهادنة والتنازل عن هذا الهف غير مبالين بآلة النظام الباطشة واستقبلوا الرصاص وقذائف مدافع الدوشكا وقدموا الأرواح زكية ولم تلن لهم عزيمة وهم ماضون ولن يهدأوا ويتوقفوا دون إسقاط النظام والقبض على عصبة اللصوص ومحاكمتهم وتخليص شعب السودان إلى يوم الدين ممن تسول لهم أنفسهم على استعباد عباد الله باسم الدين.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..