المساح: أسرار الموهبة وتجلياتها (2)

د. الفاتح إبراهيم / واشنطن
علي احمدي المساح وهذا اسمه الكامل موهبة من النادر تكرارها .. انه ذلك العبقري الامي الذي كان يجوب شوارع مدينة ود مدني حاضرة الجزيرة باحثا عن الجمال وموحيات القصيد .. ولذلك لقبه اصدقاؤه بالمساح لأنه كان كثير التجوال كما كان يفعل مهندسو المساحة الذين يجوبون المدينة لإكمال تخطيط الاحياء والشوارع والاسواق التجارية ..
اسعفني الحظ وأنا ما زلت طالبا في المرحلة الثانوية أن يكون سكني ليس بعيدا من مكان سكن المساح مع امه “حبيبة” وهذا اسمها الذي من الطبيعي ان يكون مصاغا من حروف ما يغزله الابن من حرير القصائد في الحب والغزل ..
عندما تعود بي الذاكرة واتمثل ذلك البيت البسيط المتهالك أو ما تبقى منه – لأن جزءا كبيرا منه قد تهدم – يتأكد لي أن العبقرية والموهبة صانعة الجمال لا علاقة لها ولا تتأثر ببيئة الخارج مهما بدت غير مواتية فإنها تستمر في الابداع وانتاج الجمال تفرزه مما يعتمل في داخلها وليس مما يحيط بها من بؤس ..
كان ذلك البيت المتواضع يسكن فيه المساح مع امه التي تبيع “الكسرة” نشتري منها ونحن في ذلك السن اليافع تلك السلعة المتواضعة وبمجرد ان نراها تسري الينا منها تلك الطيبة ودفء الام الرؤوم الصادر من كلامها وبشاشة استقبالها لنا.. لذلك كنا نتطلع بحماس الى ذلك المشوار لرؤيتها فقد كانت بحق حبيبة اسما على مسمى .. ولكل امرئ من اسمه نصيب كما قالت العرب ..
لقد عاش المساح في بيئة فقيرة معدمة حتى انه لم يتمكن من حيث المهنة ان يرتقي الى مهنة الوالد ليصبح خياطا كامل الدسم وانما بقي مساعد خياط “صبي عراوي” يطرز فتحات “الزراير” على الجلاليب والعباءات الرجالية .. ولكن لماذا يهدر هذا الفنان المرهف الجميل طاقته في مثل هذا العمل والاقدار تعده الى ما هو اخطر من ذلك ليعتلي فيما بعد مكانة مرموقة في الشعر والغناء ..
والاعجب من كل هذا ان هذا العبقري الذي نظم الدرر والذي اشتهر بأعذب المفردات واجمل الصور لم يكن يحسن القراءة والكتابة .. لذلك لم يغفل وهو يتجول في أحياء المدينة أن يحمل معه كراسة متواضعة وقلم رصاص حتي إذا هاجمته
احدى عرائس الشعر اعطى الكراسة والقلم لاحد المارة ويملي عليه القصيدة كاملة .. وربما ظن البعض مخطئا ان المساح شاعر مجيد، ولكنه مقل، ولكن الحقيقة
وللأسف الشديد انه لم يكن مقلا ولكن ضاع معظم شعره لأنه لا يحسن الكتابة ليحتفظ بإنتاجه الشعري وعاش في بيئة لا تهتم بالتوثيق ..
ولا يتسع المجال هنا للحديث عن ما وصل الينا من اشعار ولكن يعجز الفكر والمنطق ان يستوعب كيف تأتى لهذا الامي الذي لا يمتلك وسيلة الاطلاع الثقافي أن يأتي بمثل تلك الصور الشعرية والمفردات لولاء سلطة العبقرية ومقدراتها الخفية .. كيف له على سبيل المثال ان يقول في قصيدة “زمانك والهوي أعوانك” وقد حاول البعض مخطئا تصحيحها قائلا بدل اعوانك اعانك غير مدرك لبلاغة “اعوانك” في هذا السياق وهذا موضوع آخر لا يتسع له المجال .. يقول المساح:
“في صبحي ومساي نازلات دموع ساحالك” يصف انهمار الدموع لفراق الحبيبة بكلمة جذرها اللغوي “سح يسح” وههنا ويا للعجب يلتقي مع امرؤ القيس في معلقته الاشهر”قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل” حين وصف المطر والسيل قائلا: “واضحى يسح الماء فوق كتيفة” ..
ويحق لنا أن نتساءل من اين له ذلك وهو الامي أن تلتقي أفكاره بواحد من أكبر وأفصح شعراء العربية ولكنها الموهبة والعبقرية واسرارها وكما تقول الفرنجة : Great minds think alike”” ..
ومما يجدر ذكره أن موحية هذه القصيدة هي احدي موظفات أجزخانة “الحضري” المعروفة في وسط مدينة ود مدني آنذاك وهي صيدلية من أصول مصرية سافرت في عطلتها السنوية الى مصر .. وقد ذكر أسمها “بهجة” في آخر القصيدة بما يعرف في علم البلاغة والبديع بالتورية وذلك حين قال يصف عودتها من مصر بعد قضاء إجازتها مع أهلها هناك :
(عدتي وعاد هناي يا البهجة هل هلالك)..
لقد ضاع الكثير من شعر هذا الشاعر الكبير بسبب انه لا يحسن الكتابة والقراءة وكونه عاش في بيئة لا تهتم بالتوثيق ..
وهناك جانب آخر من تاريخه لا يعرف عنه الكثير .. فقد كان مساهما بشعره القومي في مناهضة الاستعمار حتى ذاق مرارة السجن من جراء تلك التوجهات الوطنية .. وقد ضاعت أيضا اشعاره الوطنية برمتها مثل الكثير من الاشعار العاطفية والإخوانيات ..
وهكذا حياة المساح وما ضاع من تفاصيلها واشعاره التي وصل منها القليل الأقل تقرع ناقوس الخطر وتلفت النظر الى هذا العار والتقصير المستمر من مؤسسات الثقافة وأجهزة الاعلام في توثيق تراث هذه الامة حذوا بما تفعله الأمم الأخرى من احتفاء بمبدعيها وصانعي تاريخها الثقافي ..
أسرفت مدحا واطراءا على الملقب بالسماح، وأشرت أنه كان أميا، السؤال من هم الموهبون أكثر، شعراء البادية لدينا هنا في السودان الذين لم ينالوا قسطا من التعليم ، أم المساح الذي عاش في الحضر وتثقف سمعيا ؟
(حبيبة) التى ذكرتها كانت شقيقة المساح وليس أمه كما نعلم نحن أبناء مدنى السنى (القديمة)
يا غصن الرياض المايد
يا الناحِلني هجرك وانت ناضر وزايد
جافينى ليك أنا رايد
يا غصن الريد المايد
ما اظن عن غرامك لو اموت لا احايد
سهران ليلى طايل و العينين صحت ما جايد
تعبان قصدى ليمك انت ناضر و زايد
جافيتنى ليك انا رايد
فى الجيل يا الجمالك سائد
عينيك ليك جنود وانت ليهن قائد
يا النافر جفيتنى بنظره … لى ماك عايد
شوفتك زى هلال العيد وفيه اعايد
انا وحبك ترعرعنا ونشانا ندايد
من زمنا قبيل ايام قلال وعدايد
ما خلص القديم وتبين مصايب وجدايد
حن يا حبيب كفاى مر العذاب وشدايد
يا خُلاصة الحواري المن جِنان وخوالد
حُسنك ليك يدوم، لا أم تلِد لا والد
رافل في ظلال مجد التليد التالد
يا لابس العفاف حلي وعقود وقلايد
عانيت فى ليالى هواك صنوف واحايد
مشكلة بين هواى وجفاك وانت محايد
بس ما ذنبى غير صوت النشيد ونشايد
فى مدحك بنيت قصر الرشيد الشايد
“غصن الرياض المايد” والبعض يؤديها خطا بغصن الرياض المايل من أروع ما كتب المرحوم المساح.. ولقد حفلت كعادة الشاعر بالمفردات الجميلة والصور البديعة .. وازدادت هذه القصيدة ألقا ومتعة وفخامة وجمالا بنداوة صوت المرحوم رمضان زايد وخفة روح الأداء وازدانت بأسلوبه الرشيق في العزف على العود .. وهناك خطأ آخر صححه الشاعر نفسه في احدى مقابلاته القليلة وهو شيوع ورود عبارة “في مدحك بنيت قصر الرشيد الشايد” والصحيح قصر القريض وهو “الشعر” ..
شكرا على التصحيح وإن عرفناها ونحن في تلك السن الباكرة في حي المدنيين بود مدني بأنها أمه .. ولقد ورد في بعض المصادر بأنها امه كما وردت باسم كامل “حبيبة محمد الحسن” .. والباحث في حياة هذا الشاعر المطبوع لابد ان يواجه بهذا التضارب في مصادر المعلومات وهذا طبيعي حدوثه في الثقافات الشفهية عندما لا يتم توثيق الحادثة كتابة في حينها وانما تركها حتى تتناقلها الشفاه ..