يرونه بعيداً ..

عوض محمد الحسن

“متصلبطين عرق النبي وبالنار بتلعبوا يا عوين
يا أرزقية تخمجوا دم.
والدم مُوهو موية، ومانا طين ..
متصلبطين في الناس ..
دحين لامن يجي اليوم الفصل والحق يبين،
وين تمشوا وين؟!
تنسلو وين؟
كان طال وكان قصر الزمن، الحين بحين!”
حميد

رحم الله حميد، شاعر الشعب ولسان حاله. توفاه الله قبل ان يشهد ذلك الحين. ذهب وتركهم “متصلبطين” ومتسلطين، وتركنا نسأل الله أن يمد في أعمارنا لنشهد يوم “الفصل والحق يبين”، ويوم القصاص.

خبران مُفرحان خلال الأسابيع الماضية أحيا جذوة الأمل في قلوبنا بعد أن كادت أن تموت؛ خبران مُفرحان في وسط عشرات الأخبار اليومية المحلية والخارجية التي تبعث على الهم والغم والاكتئاب عن سفك دماء الأبرياء ، والقتل والدمار العبثي، وفساد الحكام وإفسادهم، وإهدار مقدرات البلاد والشعوب، واعتقال وتعذيب، وحتى قتل، المعارضين المسالمين، وعلى وجه أخص تصريحات دونالد ترمب، مرشح الحزب الجمهوري، الخرقاء، وتصريحات أمين حسن عمر، فيلسوف النظام، “الأخرق” (وتصريحات وزير الكهرباء بشأن توفر الكهرباء وأسباب القطوعات، (بعد الوعد ب”تصبينها” لشهر رمضان)، وتصريحات وزير المالية الأسبق حول تحرير سعر الصرف (أي كسر الجُرّة بعد قطع رأس الثور)، وتصريحات السنوسي بمجاهدات الحركة الإسلامية في نشر الإسلام (بعد ظهور 27 عاما من الإسلام في السودان)، وجميع تصريحات وزير الإعلام وهيئة علماء السودان (عن أي شيء)، وأي تصريح يصدر عن أي مسؤول في النظام يواصل تأكيد احتقارهم لعقول السامعين من مواطنيهم، ناهيك عن حقوقهم الأساسية).
الخبر المُفرح الأول هو محاكمة وإدانة حسين هبري، الرئيس السابق لتشاد، في السنغال، بالتورط في جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، وأعمال تعذيب، مرتكبة في تشاد بين 1982 و1990 ، ولا يهمنّك السفسطة التي تدور حول المحكمة وتكوينها وولايتها. ما يهمنا في الخبر أن حسين هبري خضع للمساءلة عن أفعال ارتكبها، إبّان رئاسته لتشاد، بعد أكثر من ربع قرن من الزمان، مما يبعث على الأمل في أن الإفلات من العقاب لم يعد خيارا للأنظمة والحكام، في أفريقيا وغيرها، الذين لا يحترمون شعوبهم، لأنه، حسب رؤية حميد الثاقبة والصادقة، ” كان طال وكان قصر الزمن، الحين بحين”.

الخبر المفُرح الثاني هو إدانة محكمة أرجنتينية لدكتاتور الأرجنتين السابق، الجنرال رونالدو بينوني (88 سنة) والحكم عليه بالسجن عشرين عاما لدوره في جرائم اختطاف وتعذيب وقتل المعارضين أثناء حكم العسكر الدموي للأرجنتين (1976 ? 1983) الذي لم ينته إلى بعد هزيمة الأرجنتين في حرب الفولكلاندز (المالفيناس). وقد تمت هذه الجرائم في إطار ما أسمي لاحقا “الحرب القذرة” أثناء حكم العسكر، وفي إطار عملية “كوندور – صقر جبال الإنديز” التي تم الاتفاق عليها بين الدكتاتوريات العسكرية في الأرجنتين، والبرازيل، وأروجواي، وباراجواي، وبوليفيا، وتشيلي بينوشيه، وأديرت من سانتياجو عاصمة تشيلي (وساندتها الولايات المتحدة)، لمطاردة وفتل لمعارضين اليساريين في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. وقد تم اختطاف وتعذيب واختفاء وقتل الآلاف من الأرجنتينيين أثناء الحرب القذرة، بعد حبسهم في معتقلات سرية “بيوت أشباح”. وقد تم قتل الكثير من المعارضين بإلقائهم من الهيليكوبترات في عرض المحيط الأطلسي. وحين تشمل التصفيات الجسدية الزوج والزوجة، يُؤخذ أطفالهما ويتم إهداؤهم لمؤيدي النظام وأقطابه ممن حُرموا من نعمة الإنجاب.

المهم في هذا الخبر أن المحاكمة والإدانة تمت بعد أكثر من ثلاثة عقود على نهاية الحكم العسكري في الأرجنتين – ” كان طال وكان قصر الزمن، الحين بحين”؛ ولأن المحاكمة والإدانة طالت عشرات الضباط والطيارين السابقين الذين شاركوا في الحرب القذرة؛ ولأن المحاكمة تمت بعد محاولات من الأنظمة الديموقراطية المنتخبة التي أعقبت حكم العسكر بقفل ملف الحرب القذرة (راؤول الفونسين الذي أوقف المحاكمات عام 1986 بحجة “عفا الله عما سلف”، وكارلوس منعم في 1990 الذي أصدر عفوا رئاسيا عن الدكتاتور خورخي فيديلا). غير أن العفو العام أُبطل في عام 2003 وتمت محاكمة فيديلا وإدانته مرة أخرى في عام 2010.

كتبتُ مرارا عن أمريكا اللاتينية لأنها، في رأيي، تُمثل مستقبل أفريقيا، بمسيرتها الدموية، وحكوماتها العسكرية الباطشة، وتواصل ظلم نخبها وأنظمتها للغالبية الفقيرة، والأقليات من سكانها الأصليين، وسكانها من الأصول الأفريقية التي أتت بهم تجارة الرقيق الأوروبية لتعمير القارة، ومحاولاتها المتعثرة حينا، والناجحة حينا آخر، في إحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدان جنوبها ووسطها، وحروبها “الأهلية” التي لا تزال تستعر في بعضها، وتُومض تحت الرماد بنُذر تجددها في البعض الآخر، وفساد دوائرها الحاكمة وسرقتهم لثروات البلاد وتهريبها إلى الولايات المتحدة وجزر ومراكز الحسابات السرية في اوروبا والكاريبي وأمريكا الوسطى – وقبل كل ذلك، ديموقراطيتها الناشئة التي تترسخ تدريجيا وترفض قبول “الإفلات من العقاب”، كما يحدث في الأرجنتين.
لا بد من صنعاء… وإن طال الانتظار،
والحين بحين، كان طال وكان قصر الزمن،
ويرونه بعيدا، ونراه أقرب من حبل الوريد!
++
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. بداية بناء الوطن هي “لا عفى الله عما سلف” الحساب لابد منه وهاؤلاء الانقاذيون هدموا كل لبنة بنيت في السودان قبل قدومهم. حولونا لدولة فاشلة رغم ان الشعب السوداني شعب قادر وقوي. واضيف لهم في يوم الحساب آل المرغني وآل المهدي فلهم اسهامهم الكبير في وأد بناء الامة السودانية. فعاشوا كالفيروسات في عهود الدكتاتوريات المتتالية التي اشترتهم بالمال. وهم من اضعف المعارضة الشريفة على مر العصور.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..