مأساة أطباء الامتياز

في زمانٍ مضى ..
جاء إلى الدنيا ووجد من حوله مجتمعاً يبجِّل مهنة الطب وينصِّب الطبيب فوق قمة الهرم الاجتماعي .. “في زمانٍ مضى”، كانت كل أم وكل أب يتطلعان إلى اليوم الذي يرتدي فيه ابنهما “البالطو الأبيض” .. أغاني البنات تحيطه بهالة من التقديس .. أغنيات على غرار “الدكاترة ولادة الهنا” وغيرها من الأغنيات.. والطبيب بدوره قد رسَّخ ذلك المفهوم (بلبسه المهندم .. وحضوره المميَّز.. وكفاءته التي لا يختلف عليها اثنان).

لم يكن الوصول إلى تلك المهنة (في زمانٍ مضى) بالأمر اليسير فدونه أبوابٌ ومتاريس، ودونه “معايير” صارمة لا تخضع لنظام “القبول الخاص” أو “الواسطة” .. كان الطبيب يُبتعث إلى بريطانيا للحصول على “زمالة الطب” في أي فرعٍ من فروع الطب يختاره سواء جراحة .. باطنية.. أو عيون أوغيرها من المجالات، ويعود وقد حصل عليها بسهولةٍ ويسرٍ ودون عناء.
ومع حلول عصر الاغتراب احتل الطبيب السوداني مكانة مرموقة في “بريطانيا” وفي جامعات ومستشفيات “الخليج العربي” بما يتمتع به من أمانة علمية وكفاءة واحترام للذات.

والآن ..
والآن .. جاءت “ثورة التعليم العالي” .. خرجت ثورة التعليم العالي من رَحِم سياسة “السلم التعليمي” جنيناً مشوَّهاً مُقعداً …
كان التعليم قبل “ثورة مايو” طفلاً سليماً معافىَ يمشى على ساقين قويتين [اللغة العربية واللغة الإنجليزية] فيواصل طريقه حتى التعليم الجامعي متسلحاً بهاتين اللغتين .. لغته الأم و”اللغة الإنجليزية” والتي شئنا أم أبينا هي اللغة الأولى في العالم فيما يتصل بكافة ضروب العلم والمعرفة ومجالات التخاطب والتجارة والاقتصاد وتسلِّم بها دولٌ أبعد شأواً في المنجزات العلمية مثل “ألمانيا” .. و”فرنسا” .. و”اليابان”، في حين نجد أن هناك انعداماً ملحوظاً في المراجع والدوريات العربية في مجال الطب .. هذه حقيقة لا ينكرها إلا مكابر أو من بنى حكمه على العاطفة المجرَّدة ونظر “للتعريب” فقط من زاوية كونه يعبِّر عن الاستقلالية والخروج من عباءة دول “الاستكبار”.

إن “ثورة التعليم العالي” قد فتحت الباب على مصراعيه لتحقيق “أمنيات” الكل، حيث انتشرت كليات الطب في طول البلاد وعرضها … أكثر من عشرين كلية طب [لا يشمل هذا العدد الجامعات الخاصة في العاصمة والتي تقتصر على أبناء القادرين فقط] .. أكثر من عشرين كلية طب تنعدم فيها المقوِّمات الأساسية المفروض توفرها في كلية الطب “وفق المعايير المتبعة عالمياً” من مختبرات .. ومستشفيات تعليمية .. ومكتبات.. و …أساتذة متفرغين، هذا إذا علمنا أن الأساتذة يغادرون الخرطوم لأقاليم السودان المختلفة لتدريس مقرراتهم في غضون ثلاثة أسابيع يعودون بعدها لمواصلة “مسيرتهم” في التدريس في عدة جامعاتٍ أخرى، ولا لوم عليهم ولا تثريب في ذلك مع تدني مرتباتهم قياساً إلى ارتفاع مستوى المعيشة والغلاء الطاحن.

والآن حقَّ لكل أمٍ ولكل أب أن يبكيا ابناً قد أضاعا سنوات عمره هدراً فلا هو حصّل مرتباً مجزياً يقيل عثرتهما ويضمن له عيشاً كريماً .. ولا هو نال مؤهلاً يعينه على الاغتراب .. ولا يحمل بين يديه شهادةً يُعتد بها تساعده على التخصص و … لا عزاء للأمهات و .. لا عزاء للآباء .. و …لا عزاء لشابٍ قد جعلوا منه فأر تجارب لسياسةٍ تعليمية خرقاء.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. هى المشكلة ان فهم التكوير هو بناء المبانى و احضار الاجهزة و لكن اذا لم يوجد manpower فلا تطور يقدسون الجمادات و يتركون الكوادر للحظ

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..