مقالات سياسية

خور علي كوشيب !!

طه داؤود

بعد اعتقال علي كوشيب ووصوله إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي انتشرت في الأسافير صور لمسيرة حاشدة من قاطني معسكر (مكجر) بولاية وسط دارفور احتفالاً بخبر اعتقال المذكور، أحد لوردات الحرب في دارفور، ووصلت المسيرة إلى موقع عُرف بـ/خور كوشيب حيث ترقد جثامين المئات من الأبرياء الذين قُتلوا رمياً بالرصاص على أيدي مليشيات علي كوشيب.

التاريخ يصنعه قادة الأمم، فالنبلاء منهم يفعلون الخير ويغرسون كل ما هو جميل ويمضون تاركين خلفهم سيرة عطرة وآثار حسنة، أما الأشرار فلن يصدر منهم إلا كل ما هو قبيح، ولن يتركوا خلفهم غير الخراب والدمار والسيرة السيئة.

وبالتأمل في ما فعلته مليشيات الجنجويد بأهالي دارفور من قتل وترويع وتشريد، وبمشاهدة مسيرة معسكر (مكجر) إلى خور كوشيب حيث رفات المئات من القتلى، يقفز إلى الذهن خور آخر ارتبط اسمه (على عكس خور كوشيب)، بالبطولات والتضحيات العظيمة من أجل الوطن والقيم والحرية، ذلك هو خور أبوعنجة في امدرمان، أي خور بطل الثورة المهدية الأمير حمدان أبوعنجة، حيث عسكر بقواته في هذا الموضع عند معركة فتح الخرطوم في يناير ١٨٨٥م لقصف الخرطوم بالقنابل ولتأمين المنطقة ومنع تقدم أي سفن إنقاذ قد تأتي لنجدة غوردون باشا، بينما عسكر بطل المهدية الآخر الأمير عبد الرحمن النجومي بقوات قوامها ستون ألف مقاتل في منطقة الكلاكلة بالخرطوم بعد أن عبر بها النيل الأبيض في مرحلة سابقة لتنقض هذه القوات لاحقاً على عسكر غوردون باشا واستحكاماته وتستكمل فتح الخرطوم وتحريرها من قبضة الحكم الأجنبي.

أما المهدي، فقد زحف بقوات عظيمة تقدر بمئات الآلف وعسكر على الضفة الغربية للنيل الأبيض عند منطقة الفتيحاب ليشرف من هناك على خطة الهجوم وكان يعبر النيل الأبيض من وقت لآخر إلى معسكر ود النجومي لإعطاء التعليمات والتوجيهات حتى حانت لحظة الهجوم فأصدر تعليماته ببدء الهجوم ثم عاد إلى معسكره بغرب النيل، ثم عبر النيل ليلة الفتح نحو مائة ألف من حملة الحراب والسيوف من معسكر المهدي إلى معسكر ود النجومي للمشاركة في معركة فتح الخرطوم.

وأيضا كان للبطل أبوعنجة دوره الحاسم في معركة شيكان الخالدة، وهي المعركة التي قصمت ظهر بعير الحكم المصري في السودان، حيث استطاع المهدي وأنصاره من إبادة الجيش الغازي المكوّن من ستة عشر ألف مقاتل والحصول على غنائم طائلة من المؤن والأغذية والعتاد الحربي التي خصص لها الجيش الغازي ثلاثون ألف جمل لحملها.

فبالنظر إلى سيرة الدماء والتهجير والتدمير لعلي كوشيب بموازاة سيرة الجهاد والفداء والبطولات للأمير حمدان أبوعنجة، والذي ينتمي تقريباً إلى نفس منطقة علي كوشيب في ولاية جنوب دارفور!، نجد البون شاسعاً بين الرجلين، فأين الثرى من الثريا؟ وأين خور على كوشيب من خور أبو عنجة؟

فالأول سعى مع غيره من الوطنيين الشجعان إلى تحرير الوطن وطرد الغازي واسترداد الكرامة والعزة، بينما كرس الثاني جهده ووقته في قتل وتعذيب وتشريد أبناء وطنه بعد أن عششت في بعض العقول المريضة أوهام الاستعلاء العرقي وتقسيم المجتمع إلى (عرب) و (زرقة)!

الآن وبعد أن أصبح المدعو علي كوشيب في قبضة العدالة، يحق لضحاياه في معسكرات العار أن يفرحوا وأن يخرجوا في مسيرات حاشدة تتجه إلى الخور، خور علي كوشيب، حيث يرقد المئات من ضحاياه في هذا الخور، وأن يترحموا عليهم ولسان حالهم يقول، ما ضاع حقٌ وراءه مُطالِب.

نعم، المحكمة الجنائية الدولية لن تحكم على المذكور بالإعدام، ولكن ما يهمنا هو وصمة العار التي ستظل محيطة برقبته ورقاب رؤسائه ومرؤوسيه أبد الدهر.

إنها حقاً لأكبر إدانة أخلاقية أن تقرر المحكمة الجنائية الدولية في أولى جلسات محاكمة المتهم علي كوشيب توجيه خمسين تهمة إليه تتعلق بالقتل والنهب والسلب والاغتصاب والتهجير والمعاملة المهينة التي تحط بالكرامة ضد السكان المدنيين.

يحق لضحايا الجنجويد وضحايا القصف الجوي وضحايا بيوت الأشباح وأقبية الأمن، ويحق لذوي شهداء انتفاضة سبتمبر وشهداء ثورة ديسمبر وشهداء فض الاعتصام..الخ، يحق لهم جميعاً أن تتسع آمالهم وتطلعاتهم نحو العدالة والإنصاف بعد مثول علي كوشيب أمام محكمة لاهاي في الوقت الذي يقبع فيه دهاقنة النظام البائد داخل السجون حتى موعد مثولهم أمام المحاكم لينالوا جزاء ما اقترفت أيديهم في حق المواطن والوطن.

قال تعالى في محكم التنزيل..
)وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

التحية،،

طه داؤود
[email protected]

‫4 تعليقات

  1. لا يساورنى أدنى شك فى أن تسليم على كوشيب لنفسه أو اقتياده عنوة إلى الجنائية الدولية ليس مدعاة للفرح والإبتهاج من أى طرف كان خاصة بين ذوى من يعتقد أن كوشيب وراء مقتلهم. لم تتم إدانة كوشيب حتى الأن ولن نجزم بوصفه مجرما . هذا الأمر مدعاة للتعبير عن عميق الأسف والحسرة على بلد إسسمه السودان ومرد هذا الشعور هو أن الدولة السودانية تحت ظل الإسلام السياسى وكل مؤسسات هذه الدولة قد تقاعست عن إقامة الموازين القسط بين مواطنيها ويبلغ الأسف مداه بأن الدولة ذاتها هى التى رعت أعمال التقتيل والتدمير والتهجير فى مجتمع لم يعرف سوى التعايش والتمازج بين عناصره ومكوناته، أما الثقافة فهى واحدة لا فرق فيها ولا تمييز..ومن أى نفس شريرة جاءت هذه النزعة العدونية القاتلة. نتحسر على دولتنا التى فضحت نفسها أمام العالم قاطبة بأنها ليست الحريصة ابدا على مواطنيهابل تحرك لهم من يقتلهم دونما أدنى إحساس بفظاعة الجرم المرتكب. تخيلوا دولة سودانية عاصمتها الخرطوم تستقطب قتلة من وراء حدودها سواء من صحارى إفريقيا أو مجاهلها الإستوائية… تجمعهم وتجهزهم بكل صنووف العتاد طالبة منهم القضاء على مواطنين من بلدهم يحملون سحناتها وتوعز اليهم بالقضاء عليهم. هذا الشعور يرافقنى منذ اليوم الأول ليس فى يوم تسليم كوشيب نفسه ولكن منذ إعلان أوكامبو الشهير بتوجيه التهمة للمشير السفاح عمر البشير..شاهدث فيديو المراة التى تنتحب في مكجر لفقدها ستة من أبنائها على يدى المتهم كوشيب. سواء صدقت الرواية أم يكن هو القاتل نفسه ولكن القاتل الفعلى مختبئ في أضابير المكاتب الحكومية بالخرطوم وأمصارها المختلفة. كوشيب ليس وحده القاتل أيها السادةإنها تلك المؤسسات الفاسدة العاطلة التى رعت أمثال كوشيب.. فمن أوجد ( الخفيف المخيف) وهو أحد مسميات كتائب الترويع في دارفور هو نفسه من أوعز لها بنقل المقابر الجماعية التى يظن أهل مكجر وغيرها أن أبناءهم قبروا هناك لا ليست الحكاية هكذا فقد نشطوا في طمس المعالم في لحظة فزعهم الأكبر وشارك سلاح الطيران السودانى في رحلات مكوكية بنقل رفاة القتلى إلى مناطق نائية في أجزاء مختلفة من دارفور.وهكذا شانهم فما قتلوا نفسا إلا وأضاعوا الرفاة مخافة عن يتم العثور عليها ذات يوم.. تصوروا هؤلاء من كانوا يملؤون الدنيا ضجيجا بالأذان وتلاوة القران كانهم يخشون الله فعلا ويتبتلون في ملكوته ولكنهم كانوا شياطين أبالسة لم يتركوا عملا قبيحا إلا أتوه. على أهل مكجر أن يترجموا حزنهم وغضبهم إلى عمل بناء ويفووتوا الفرصة على من نكل بهم وألا يضعهم مرة أخرى في الحجر الذى أراده لهم.. إنطلقوا إلى إخوتكم وجواركم القريب والبعيد بأيد ممدوة للصفح ومغادرة هذه المحطة بسرعة فالحياة لا ولن تتوقف بحدوث إبادة أو مقتل عدد من الأفراد بل تستمد الحياة زخمها وقوتها وجمالها من جمال الروح التى تصفح وتعفو.. فالأنفس التى أزهقت على يدى سواء كوشيب أوغيره لن تعود أطلقوا يوما لتخليد ذكراهم بالتصافى والتسامى ألقموا القتلة الرابضين في دير الحركة الإسلاموية القموهم حجرا حتى لا تتحقق لهم أمانيهم الشريرة.. ليس فى دارفور وحسب بل فى كل بقاع السودان وحتى نستشرف اليوم المشئوم لإنقلابهم في الثلاثين من يونيو .. لا تجعلوا من حزنكم مناسبة لإستدرار التعاطفبل إجعلوه رمزا للمقاومة وحبذا لو إنطلقت منك مبادرة للصفح عن كوشيب تحديدا عرفانا وإقرارا بشجاعته.بتسليم نفسه. ترى سيندهش العالم بذلك.. وليته حدث

    1. شكرا الأخ KOGAK على هذه الإضافة الرائعة لموضوع المقال. نعم، اتفق معك تماما أن كوشيب وأشباهه من لوردات الحرب، كانوأ أدوات تنفيذية يحركها المركز، ولذلك أشرت في مقالي إلى رؤساء ومرؤوسي كوشيك. وكل فئة تتحمل نصيبها من المسئولية في هذه الجرائم. أما سكان معسكر مكجر فهم لا حول لهم ولا قوة، وخروجهم في تلكم المسيرة ما هو إلا تعبير رمزي عن الفرح بعد أن تم القبض على أحد المجرمين، ولكن من المؤكد أن أحبابهم الذين قتلوا بدم بارد لن يعودوا.
      تحياتي…

  2. حمدان ابوعنجة ينتمي لقبيلة المندل في شمال جبال النوبة في كردفان و ليس لمنطقة كوشيب كما ذكرت فعلي كوشيب من منطقة رهيد البردي في جنوب دارفور

    1. مشكور أخ أنصاري على المداخلة..
      بخصوص حمدان أبوعنجة، توجد بعض الروايات التاريخية التي تشير إلى أنه ابن خالة الخليفة عبدالله ونشأ في نفس منطقة الخليفة عبدالله، والله أعلم. وفي كل الأحوال، الهدف من ذكره هو المقارنة بين فعل الرجلين..
      تحياتي.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..