كي لا تكون الوقائع مجرد أساطير ترسلها السماء

الذي تجاوز الثلاثين والذي لا ينام إلا على تراتيل طفولته وصل الى المقبرة وكان الآخرون قد وضعوا الأشرعة في القوارب واتجهوا الى البيت.

ميدل ايست أونلاين

بقلم: قيس مجيد المولى

سأكشف النقاب عن كل الأسرار

رغم أنه تجاوز الثلاثين لا ينام إلا على تراتيل طفولته، ومن بينها تلك التراتيل التي تصف ضيق الحال والقطيعة ولكي يكون أقرب من الفكرة وأقرب من ذلك الصوت امتلكت حواسه مياسم الطرق وخبايا الأماكن عند الشّط واليوم الذي لا يذهب به لصيد الأسماك:

لم يتعلم بعد استنشاق الخمرة

ولا أكل الشلغم

ولا النظر بشهيةٍ لفتاة

بل الأغرب وحسب ما ورد في نصٍ لرامبو لا تحرك العطورُ منخاريه

لكنه حين يستبد به الضجر

يعزف بالماصول من أنفه

ويغني بأعلى صوته أشعار الحاج زاير

كي تصل رسائله الى ذلك البيت الذي يجاور الجسر الخشبي ذا الدعامات الأربع، تلك الفتاة التي أحبها حين مرت ذات يوم في السوق المُسقف وكان يجلس في مقهى الحيران يستمع لحسين سعيده ولجعفوري: “لأقعدن على الطريق وأشتكي وأقول مظلوما وأنت ظلمتني” و”بره المسكوم من علته وأنا داي ..”.

ومنها قادته روحه الى منزل الأحباب من بعيدٍ لبعيد وحتى وهو في قاربه من بعيدٍ لبعيد وحين بدأ موسم القتل وهو الموسم الذي يعني إعطاء الفتاة فدية لأهالي القتيل ورُحل بها لمكانٍ مجهولٍ ما بقي شعاع يرنو اليه في روحه ولا بَلمٌ يمر من أمام البيت الذي يقع قرب الجسر الخشبي ولا شفاه تستطع أن تتحرك ليقرأ لرامبو وهو ينظر بعينيه فقط.

إلى “في المساء نسلك درب العودة هائمين على وجوهنا، مثل قطيعٍ يقضم كل ما يصادف حوله” ولا يستطع قراءة وبصوت مسموع “حينَ، تحت الخشبات المدخَنة، تغني رؤوس الخبز المعطرة والصراصير حين يتفتح ثقب الحياة فإن نفوسهم تمتلئ بالغبطةِ تحت أسمالهم”.

لكنه بعد عام أصيب بسلوى الجنون وبمتعة الهذيان ليلا ونهارا يخاطب الشط، الأسماك، الناس في الأسواق، البيت قرب الجسر الخشبي وبنفس ثغاء رامبو “أيها الناس .. أيها الناس، إنها أخطاء يهمسون لي بها في أُذني، التصوف.. العطور .. الموسيقى .. الصبر .. القَسَم بكلام الله.. والتعاويذ الشعبية ومنها السحر والكيمياء..” كلها أخطاء أخطاء لا تهمسوا بها في أذني.

ولم يكتف حينَ وضعَ قالب الثلج فوق رأسه

ولا بغليان الدهن الحر وسكبه فوق قدميه، ومن هنا بدأ اهتمام الآخرين به ومن هنا تعرّفَ البعض ومن خلاله على فصول رامبو في الجحيم.

كانت كل الأشياء قد تحولت الى هلوسات “رؤيا البط في الجيحةِ .. ممارسة طيور الماء الجنس أمام الإقطاعي .. طَلي عجينة التمر بالسمسم .. وأشعة الفانوس فوق جسد حلم كالسنبلة”.

وكان لا بد أن يكون هناك يوم ما لسنة ما تقضي بالرحيل بقاربٍ بطائرةٍ بسيارة نحو اتجاهٍ مقصود، كان اليوم السابع من الشهر الثالث من العام 1956، كانت سيارة الباص الخشبية وهي محملة بجثته وخوص النخيل تسير في الطريق المؤدي لمثواه الأخير تاركا خلفه تضاريس المكان وهمهمة القاتل والقتيل ودموع الفدية وصوت جعفوري وحسين سعيدة في مقهى حيران يتناوبان بالغناء على أشياء كثيرة لا تكتفي الدموع لنهايات قصصها، في حين آخرون منهم من قرأ بعد الفاتحة أيضاً لرامبو: كان يسمع أهدابها السوداء خائفة عند ذر الشعير .. إنهم جاثمون لا أحد يتحرك بإزاء زفير الفتحة الحمراء .. الدافئة مثل ثدي” وآخرون منهم قرأوا:

سأكشف النقاب

عن كل الأسرار

الموت، الولادة، المستقبل، الماضي، ابتداء الكون، العدم، الشيطان وهو جالس، والشيطان وهو يركض، يركُض.

ما بعد تلك الأيام التي وصل بها الذي تجاوز الثلاثين والذي لا ينام إلا على تراتيل طفولته وصل الى المقبرة وكان الآخرون قد وضعوا الأشرعة في القوارب واتجهوا الى البيت الذي يجاور الجسر الخشبي بعد أن رفعوا الى الأعلى كتبهم التي يقراءون بها وهم ينشدون الظلال العذراء للضياءات المعصومة كي لا تكون الوقائع مجرد أساطير ترسلها السماء.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..