الطواويس الغبشاء? الأحداث التي تناولتها وبنيت عليها الرواية

إن الاختراق الكبير الذي أحدثته رواية الطواويس الغبشاء لكاتبها عبده فضل الله يعد جرأة سردية في اختيار المكان الذي تدور فيه أحداثها ،حيث عمل الكاتب على تسليط الضوء على أكثر الأماكن خصوصية ويمكن القول (قدسية) في راهن الدولة السودانية ببعدها الديني، إذ أن المكان الذي تدور فيه أحداث هذا العمل هو (مسيد الشيخ العبيد ود بدر) بمنطقة أم ضواًبان، تتأتى هذه الجرأة السردية لما يعنيه هذا المسيد تحديداً بالنسبة للمتصوفة السودانيين حيث يعتبر المكان في مخيلة البعض بأنه لا يمكن البحث فيه بهذه الطريقة التي استخدمها الكاتب في تتبع أحداث ومعالجات المشاكل التي تواجه بطل الرواية (هارون دبليبة) وهذا الرأي يشابه تماماً ما قالت به لجنة تحكيم مركز عبدالكريم ميرغني عندما شارك كاتبها بها في جائزة الطيب صالح،لكن ما يحسب ذكاءً من الكاتب عبده فضل الله في تناوله لمؤسسة المسيد أنه اشتغل على الجانب الاجتماعي ولم يتطرق لموضوع الدين أو إظهار الرأي الديني مجملاً في الأحقية التي تتبع من الناس في بعديه مع تقاطعاته مع موروث الصراع (سلفي، صوفي) لكن نعود ونقول هل هو ذكاء أم هروب أم اهتمام شخصي منه بإبراز الحياة الداخلية وطريقة معايشة الواقع الاجتماعي لطلبة القران بمسيد العبيد ود بدر.
يتأسس مشروع الرواية على ثيمتين العنصرية والحب، حيث يواجه بطل الرواية (هارون دبليبة) عنصرية مقيتة من أحد زملاء سكنه مما يجعل الجو مشحوناً بالتوترات والترقب بحدوث مشكلة في أي لحظة، لكن ما يجعل الحالة هادئة دائماً وجود (عبد الرحمن البطحاني) والذي يمثل ملاك الرحمة كما جاء في العمل.
الرواية من وجهة نظرنا تمثل أدب الواقع أو الواقعية المجتمعية،حيث المكان مدينة في طور تشكلها وتأسسها بإبراز الدور الذي قام به العبيد ود بدر في إنشاء مدينة أم ضواًبان، وجغرافياً بموقعها شرقي الخرطوم العاصمة، ومبانيها القديمة التي تقوم على الطين الني، وأحيائها القديمة أيضاً رغم بساطتها لكن يكون المسيد بمثابة الرابط القوي لها، أيضا جاء في الرواية الحدود التي تحد المدينة من كل الجوانب والتي يمثل (الترس) الترابي حاجز صد وحماية لها من خطر الأمطار .
الزمان في رواية الطواويس الغبشاء يبتدئ مع ظهور الثورة المهدية ومقاومة الاستعمار التركي المصري للسودان،حيث نجد مشاركة العبيد ود بدر في هذه المقاومة وخوض جيشه لمعركة الجردة (غربي) أم ضواًبان والتي سميت بشيكان الصغرى وانتصاره فيها مما فند الإدعاء القائل بأن العبيد ود بدر كان ضد المهدية.
الطواويس الغبشاء عمل كما أسلفنا مخترق كلياً حيث نجد أنها ربما المرة الأولى التي نطالع فيها رواية تسرد وقائع من داخل إحدى المؤسسات الدينية في السودان وهو من الصعوبة بمكان التطرق له، أيضا نلاحظ استنكار الكاتب داخل الرواية التداخل اللصيق بين السياسة والدين وذلك بالإشارة إلى أن الرئيس السوداني ابتدر حملته الانتخابية من مدينة أم ضواًبان لما تمثله من ثقل صوفي في المجتمع السوداني الذي نشأ متصوفاً منذ تكونه السناري الأول، داعياً بذلك الكاتب الذي ولد ونشأ وتربى وترعرع في المنطقة معايشاً لكل المواضيع التي تناولتها الرواية والتي وجدت معارضة كبرى من أهالي المنطقة، أن يتم الطلاق بين المؤسسة الدينة والسياسة وفك الارتباط بينهما وتفكيك هذه البروباغندا البغيضة وقيام كلٍ بدوره.
وعندما يتبادر إلى أذهاننا سؤال تعريفي عن عنوان العمل وما المدلول الذي يحمله أننا نجد أن الطواويس الغبشاء عنوان يرمز إلى مشية الخيلاء عند (الفقرا) وهم طلاب القرآن في استجابتهم لنداء الصلاة خروجاً من (خلاويهم) أو ثكانتهم التي يتخذونها مسكناً لهم.
إن المشاكل التي يواجهها (هارون دبليبة) في هذا العمل من عنصرية وإقصاء وجلد وعنف، ورفض لحبه كفيلة بتحريك محرك البحث والدخول إلى هذه المؤسسات والنظر بعين المعالج لما أوردته الرواية والمساعدة في إيجاد الطريقة المثلى التي يجب أن ينال بها طالب القرآن حظه من العلم.
نقول في الختام أن الكاتب عبده فضل الله قد وضعنا أمام صورة لم نعهدها من قبل لما تكنه روحنا من محبة واحترام لتلك الأماكن وقدسيتها.
(في المساء أجدني في حضن أداو أم ساقين، ناظراً السماء التي تمتليء بالنجوم وأبدأ في عدها، بينما أداو أم ساقين نائمة تلزمها سكينة عميقة فيزداد مشروع الحلم في نومتها، فتتفتح مسارات تتفرع منها مداخل لرؤى كانت تشكل ذات الحلم، فألتفت إلى ثغرها وأبتسم…).
في الحقيقة (هارون دبليبة) هو (هارون دقليبة) كما ينطقها الفقرا…
هكذا جاءت خاتمة الرواية..