قضايا ‘اللعب فوق جبال النوبة’ تحتاج إلى نقاش مجتمعي جاد

"اللعب فوق جبال النوبة" رواية قرأتها في يوم واحد للكاتب المصري النوبي الراحل ادريس علي. وقد نقلتني هذه الرواية لعالم النوبة الساحر والذي يجهل أهل مصر الكثير عنه، فهو عالم مستقل بذاته له لغته غير المكتوبة ولكنها متوارثة جيلا بعد جيل، وعادات وتقاليد اجتماعية وثقافية مختلفة. عالم يقع بين عالمين كما ورد في الرواية؛ عالم الشمال بتقاليده ولون بشرته الأبيض، وعالم الجنوب بتقاليده ولون بشرته شديد السواد. عالم يقع في المنتصف ولم يستطع أن ينتمي لهذا العالم أو ذاك.

في هذا العالم المتفرد بخصوصيته حضرت غادة الفتاة البيضاء والتي هي نتاج لزواج أب نوبي وأم قاهرية. حضور غادة للقرية كان عقوبة لها لأنها تمردت على تقاليد النوبة التي لم تعرفها وعشقت رجلا قاهريا وعشقها، وتقدم لخطبتها فرفض أبوها لأنه وإن تزوج من قاهرية فهو يرى أن الفتاة النوبية لا يمكن ألا أن تتزوج من نوبي، ولهذا رفض خطيب ابنته التي لم تيأس وحاولت مرات ومرات انتهت بهروبها وذهابها إلى قسم الشرطة مع حبيبها من أجل أن يتزوجا، ولكن ـ ولأنها قاصر ـ تم إعادتها لأهلها والانتقام من الخطيب نتيجة لنفوذ ابيها الذي يعمل في نادي العاصمة ويختلط بالكبار من أصحاب السلطة والنفوذ الذين يقضون سهراتهم في هذا النادي.

نتيجة لهذا الحب تم نفي غادة الى احدى قرى النوبة التي لم يسمع بها أحد سوى أهلها، وهناك صعقت غادة من الفارق الرهيب بين حياة القاهرة وحياة أهل النوبة، ولم يتقبل أهل القرية ثورة غادة التي كانت تنطلق حاسرة الرأس محلولة الشعر دون ضفائر، ووقع كل رجال القرية في حبها وكذلك صغارها بما فيهم الطفل الذي كانوا يلقبونه بإبليس لشقاوته.

نجحت غادة في أن تعلم بعض فتيات القرية، وهو ما أثار إعجاب مديرية التعليم في أسوان، وبالتالي تم مكافأة غادة بشهادة تقدير وخمسة جنيهات كانت تشكل مبلغا محترما في الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية، وهي فترة حكم عبدالناصر، لكن أيضا هذا النجاح أثار حقد نساء القرية وشاية جدة غادة، ولهذا استغلت لحظات رقص البنات بالطريقة الشمالية كي تقتل هذه التجربة في مهدها.

وتستمر الأحداث فتخضع غادة للختان على الطريقة النوبية والوشم وثقب الانف وتضفير شعرها وكل ذلك يفشل في أن يحولها لنوبية، وعندما تقرر الجدة تزويجها لمحروس المجنون والذي يعيش على ما يقدمه له أهل القرية والقرى المجاورة، تقرر الهرب بمساعدة ابليس الطفل الذي أحبها، وبالفعل يهربان ولكن الذئاب تجبرهما على أن يطرقا أبواب أول قرية يصادفانها والتي يقرر عمدتها وممثل القانون فيها أن ينتصر للتقاليد والعادات النوبية (إشارة ذكية جدا من الكاتب لقوة العادات والتقاليد على غيرها من القواعد التي يخضع لها المرء في حياته) ويسلم الفتاة لأهلها.

وهكذا تعود غادة للقرية، ونتيجة لما تعانيه الفتاة من تعذيب جدتها يقرر جد ابليس ان يأخذها للشمال مرة أخرى، ولكن غادة تختفي للأبد ولا يعرف أحد مصيرها سوى شاية التي هدأت نفسها لأنها انتصرت للعادات والتقاليد.

رواية رائعه بسيطة الكلمات وعميقة المعاني تناقش عددا من القضايا الهامة والتي قد لا تقتصر فقط على مجتمع النوبة، ولكن على كل المجتمعات المماثلة، الظلم الواقع على المرأة في مثل هذه المجتمعات، فعلى الرغم من أن الأب قد خرج على تقاليد أهل النوبة وتزوج من شمالية إلا أن هذا الحق في اختيار الشريك لا يمتد للمرأة النوبية التي لا يسمح لها إلا في حالات نادرة جدا بالزواج من خارج أهل النوبة حتى وأن عشقت وكان لقلبها رأي آخر.

وهذا أمر لا يحدث فقط لفتيات النوبة ولكن لاتزال الكثير من الفتيات خاصة في المجتمعات التقليدية تعاني منه، ولا يمكن بحال من الأحوال نكران وجود هذا الشيء، فالمرأة في هذه المجتمعات تمنع ربما من رؤية من ستتزوجه إلا في ليلة العرس، وهكذا تتزوج من مجهول وغالبا ما تمتد تعاستها لعمرها كله، بينما يتخلص الرجل من ذلك بالزواج عليها وربما تركها كأم للأولاد فقط، ولا يلقى هذا التصرف أي استغراب من المجتمع بل تشجيع ودعم وتأييد.

الأمر الثاني الهام الذي أشارت له هذه الرواية هو قضية تعليم الفتيات، وهي قضية جدا هامة وتعد سبة عار في جبين المجتمعات العربية خاصة والمجتمعات في دول العالم الثالث بصفة عامة، فكثير من المجتمعات لا تزال تنظر ـ خاصة في الريف ـ إلى أن تعليم البنات على أنه أمر غير محمود. انه يفتح باب الشيطان وأنه يجب أن لا تتعلم الفتاة أو تكتفي بقدر محدود من العلم لا يمكنها من التمرد والثورة على العادات والتقاليد المتبعه في المجتمع. وهذه كارثة حقيقية تؤدي إلى افقار الثروة البشرية العربية، فكيف تحرم نصف المجتمع والمسئولة عن تربية النصف الآخر من حق أساسي وهو الحق في التعليم وبالتالي القدرة على تربية أبنائها بصورة صحيحه تمكنهم من أن يتولوا ادوارا فعالة في تنوير المجتمع وتثقيفه والقيام بتنمية بشرية تنعكس على كل جوانب الحياة المجتمعية.

إن قضية تعليم الفتيات ومحو أميتهن قضية هامة ولكن للأسف لا تجد من يهتم بها بصورة جدية وكل الاهتمام يوجه إلى المطالبة بحقوق أقل أهمية من هذه القضية والتي إن عالجناها بكل تأكيد سنتغلب على كثير من الظلم الواقع واللاحق بالمرأة في مجتمعاتنا العربية، فالعلم والاستقلال الإقتصادي هو سلاح المرأة كي تجبر المجتمع على تغيير كثير من ممارساته الظالمة تجاهها، وهذا ما يدركه حراس العادات والتقاليد، ولهذا يعملون على محاربته والقضاء عليه حتى تبقى تلك العادات والتقاليد الظالمة والتي تؤدي للإخلال بكثير من حقوق المرأة.

ومن القضايا الهامة التي تطرحها هذه الرواية قضية الإنغلاق الثقافي والغربة الثقافية، وهي ايضا من القضايا الهامة التي لا تقتصر على مجتمع دون آخر ولكنها قضية جوهرية ومحورية، فكثير من المجتمعات العربية تعاني من حالة الانغلاق الثقافي على ذاتها، فلكل مجتمع تقاليده وعاداته وثقافته والتي لا تسمح أبدا للغير بالدخول إليها وترفض بالاحتكاك مع الآخرين خوفا على هذه الثقافة وهذا ما يؤدي إلى الإغتراب الثقافي عند حدوث الاحتكاك بين الثقافات.

والإغتراب الثقافي نتيجة طبيعية للانغلاق الثقافي بين المجتمعات، ولهذا فالتعليم أيضا هو وسيلة لكسر هذا الحاجز الثقافي، تعليم الإناث والرجال هو الوسيلة الوحيدة لإجتياز هذه الفجوة الثقافية بين المجتمعات المتعددة في الوطن الواحد وبدونه ستبقى هذه المجتمعات دوائر مقفلة لا تسمح للغرباء بالدخول إليها وإن حدث أي اختلاط بين هذه المجتمعات فستكون نتيجته الشعور بالضياع والغربة، فالفارق الكبير بين هذه المجتمعات يجعل المنتمي الى اكثر من مجتمع (حالة غادة مثلا) لا يستطيع أن يحدد هويته، ولا يستطيع أن يتعايش مع هذا الفارق الثقافي الرهيب.

رواية اللعب فوق جبال النوبة لإدريس علي أكثر من رائعه، وتفتح عددا كبيرا من القضايا الهامة والتي تحتاج إلى نقاش مجتمعي جاد.

ميدل ايست أونلاين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..