مقالات سياسية

حين ينطق الكذب بلسان السياسة: بين ممداني والحقيقة المغيبة في لقاء إبراهيم محمود

الكباشي أحمد

“الحقّ ما بنطمر، كان دفنّو في تراب

يبقى تِحت القبر حيّ، يوم بقول الكتاب”

محمد الحسن سالم حميد

في لقاءٍ أُجري بالأمس على قناة الجزيرة مباشر، استضاف الإعلامي اللامع أحمد طه، الرئيس المكلف لأحد فصائل المؤتمر الوطني المحلول إبراهيم محمود، في مقابلة اتّسمت بكثرة المغالطات الصريحة والأكاذيب المكشوفة، كان مضيف اللقاء يقظًا في التصدي لها، وتفنيدها بحنكة، غير أن إحدى المغالطات ربما فاتت عليه بسبب نطق إبراهيم محمود الخاطئ لاسم الأكاديمي اليوغندي المعروف البروفيسور محمود ممداني، الذي أسماه “محمداني”، وزعم أنه أمريكي.
ومن بين تلك الأكاذيب، ادعاء إبراهيم محمود بأن ممداني قال إن كل إحصائيات الضحايا في صراع دارفور كذب، وهو زعمٌ لا أساس له من الصحة، بل يتنافى تمامًا مع ما أورده ممداني في كتابه “الضحية والمنقذ”، حيث لم ينكر الأرقام، بل دعا إلى التمييز بين الضحايا المباشرين بفعل الحرب، وبين غير المباشرين بفعل المجاعة والنزوح والمرض، مؤكدًا أن استخدام الأرقام سياسيًا كان لأغراض دعائية أكثر من كونه دافعًا جادًا لإنهاء المأساة.
ممداني لم يُهاجم الغرب من باب العداء، بل انتقد بعض مقارباته من باب التنبيه والتصحيح، لا التحقير أو التجريم، على عكس ما حاول إبراهيم محمود أن يروّجه. كما أن الأكاديمي اليوغندي لم يُشكّك يومًا في تقديرات الأمم المتحدة التي أشارت إلى قرابة 200 ألف قتيل، ولم يتورط في نفيها كما زُعم.
الادعاء الأشد تضليلًا كان حديث إبراهيم محمود عن وجود إدارة أمريكية تُدعى “Credibility Department”، زاعمًا أنها رفعت تقريرًا إلى الرئيس الأمريكي والكونغرس تُكذّب فيه أرقام الأمم المتحدة حول ضحايا دارفور. والحقيقة أن هذه الإدارة لا وجود لها أصلًا في هيكل الحكومة الأمريكية، ما يجعل هذا الزعم محض اختلاق لا يمت للواقع بصلة.
وفي انتقاداته للمقاربات الغربية، لم يكن ممداني مُجرِّماً للنوايا، ولا متجنّيًا على دور المنظمات الدولية، بل كان حريصًا على تفكيك الخطاب الإنساني المُبسّط، من باب المعالجة والتصويب لا التجريم والتشويه، كما حاول إبراهيم محمود أن يوحي.
ولا يفوتنا هنا التأكيد أن التشكيك في عدد الضحايا جريمة بحد ذاتها، لا تُصدر إلا عن منظومة مأزومة في الأخلاق، متورطة في الجريمة، أو مبرّرة لها. إن قدسية النفس البشرية لا تُقاس بالأرقام، ولا تُجزّأ وفق الهوية أو الموقف السياسي، فالقرآن الكريم يقول: “من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا”.
إن الجريمة في ذاتها لا تختلف في جوهرها مهما بلغ عدد ضحاياها، فالقتل يبقى قتلاً، والعدالة لا تُفصَّل على مقاس المجرمين. إن من يقتل نفسًا واحدة بريئة كمن قتل الإنسانية كلها، ومن يحاول تزييف هذه الحقيقة أو تبريرها، إنما يُعلن عن شراكة أخلاقية صريحة.
والأدهى أن الكذب في هذا السياق يُقدَّم من جماعة تدعي التديّن والامتثال لتعاليم الإسلام، بينما الإسلام أشد الأديان تحريمًا للكذب، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من علامات النفاق، ناهيك عن أن الكذب في قضايا الدماء والعدالة يُعد من أشنع أنواع الفجور.
إن محاولة إنكار الجريمة أو تقليل فظاعتها، هي شراكة معنوية في ارتكابها، ومن يسوّق لذلك لا يتحدث من موقع الفهم أو التحليل، بل من داخل منظومة لا تزال حتى اليوم تُبرر العنف وتُضلل الرأي العام.
مثل هذا النوع من الأكاذيب، خاصة حين يصدر من مسؤول سياسي سابق، لا يُعد فقط تدليسًا، بل جريمة أخلاقية ضد ذاكرة الضحايا، ومحاولة مفضوحة لتبرئة الجناة وتحميل المسؤولية للضحايا أنفسهم.
وفي النهاية، فإن الحق لا يُدفن، حتى وإن تكالبت عليه أكاذيب السياسة وذرائع التبرير. وستبقى أصوات الحقيقة، مهما خُذلت، تُنبّت من تحت الركام، شاهدةً على من قتل وضلل وتواطأ.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..