صناعة الدستور قضية أساسية وسياسية

تعليقات في السياسة الداخلية
سليمان حامد
صناعة الدستور قضية أساسية
الندوة العلمية عن صناعة الدستور التي نظمها المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان بالتعاون مع بعثة الأمم المتحدة في الخرطوم في برج الفاتح في 24/25 مايو 2011 ، إشترك فيها عدد من الأساتذة الأجانب والسودانيين ، ناقشت قضية الدستور الدائم بعد إنفصال الجنوب .
بصرف النظر عن تباين الآراء أو إتساقها والتي أسهم بها المشاركون في الندوة ، إلا أن إقامة الندوة في حد ذاته عن الدستور الدائم للبلاد في مثل هذا الوقت عمل إيجابي رغم أنه جاء متأخراً . ففي الفترة الماضية دار لغط كثيف عن دستور شمال السودان بعد الإنفصال . والعديد من قادة المؤتمر الوطني كانت آرائهم متباينة وتصريحاتهم غير متسقة ، بل بلغ التنافر في الآراء حد إقالة اللواء حسب الله من مستشارية الأمن القومي التي أنيط بها مشاورة القوى السياسية ضمن قضايا ما بعد الإنفصال ومن بينها الدستور . حدث ذلك لأن رأيه كان مخالفاً لرأي متنفذين في المؤتمر الوطني . فقد قال رئيس الجمهورية ونائبه علي عثمان محمد طه وغيرهم ألا بديل للشريعة كمرجع وحيد للدستور بعد الإنفصال . وكان آخرون ومن بينهم السيد أحمد إبراهيم الطاهر رئيس المجلس الوطني يرون أن يتواصل العمل بدستور جمهورية السودان الإنتقالي لسنة 2005 بعد الإنفصال علي أن تحذف منه كل المواد التي تتعلق بالجنوب .
إستند السيد أحمد إبراهيم الطاهر في طرحه هذا علي بندين من المادة (226) في دستور 2005 الإنتقالي ، فقد نص البند علي الآتي تحكم هذا الدستور الفترة الإنتقالية ويكون خاضعاً لأي تعديل أو مراجعة وفقاً للمادة (224). ويظل سارياً إلي حين إعتماد دستور دائم) . وجاء في البند (10) ما يلي : (إذا جاءت نتيجة الإستفتاء حول تقرير المصير لصالح الإنفصال ، فإن أبواب وفصول ومواد وفقرات وجداول هذا الدستور التي تنص علي مؤسسات جنوب السودان وتمثيله وحقوقه وإلتزاماته تعتبر ملغاة)
إلا أن السيد أحمد إبراهيم الطاهر أغفل العديد من المواد في الدستور ، علي أساس الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية . فعلي سبيل المثال جاء في المادة (224/1/2) الخاصة بتعديل الدستور : ( لايجوز تعديل هذا الدستور بكل مجالس الهيئة التشريعية في إجتماع منفصل لكل منهما وبشرط أن يقدم مشروع التعديل قبل فترة شهرين علي الأقل من المداولات) ، وجاء في البند ( 2) :لا تطرح التعديلات التى تؤثر علي نصوص إتفاقية السلام الشامل إلا بعد موافقة طرفيها .
إن البندين يمثلان عقبة حقيقية أمام كيفية تنفيذ القضايا العالقة المقرر حلها وحسمها قبل التاسع من يوليو 2011 .
الإنتخابات العامة الأخيرة التي زيفت فيها إرادة الشعب السوداني أفرزت واقعاً جديداً ، فقد كان ضمن أهدافها الأخرى للتمكين ، وهو التقية لمثل هذه الحالة النادرة . فقد كانت إستقراءاً وإستباقاً لضمان إحراز المؤتمر الوطني ثلاثة أرباع أعضاء المجلس الوطني في الشمال ، واستطاع أن يحصل عبر التزوير علي أكثر من ثلاثة أرباع المجلس الوطني . ويستطيع أن يمرر نص البند (10) ، ولكن ليس بمقدوره أن يفعل ذلك في مجلس تشريعي الجنوب لأنه حصل علي أغلبية كاسحة أيضاً ويستطيع أن يستند أيضاً علي البند (2) الذي يشترط موافقة الشريكين علي أي تعديلات في الدستور . ثم هناك شرط تقديم مشروع التعديلات قبل شهرين علي الأقل من المداولات ، فهل بمقدور الشريكين أن يوفيا بهذا الشرط وقد تبقى من عمر الفترة الإنتقالية أقل من شهرين ، غير أن ما يجُب كل ذلك ويجعله في حكم التاريخ ولا يتسق مع الواقع الجديد بعد الإنفصال هو أن إتفاقية السلام الشامل وقعها طرفان هما المؤتمر الوطني والحركة الشعبية والدستور الإنتقالي إفراز لهما . ورغم مافيه من إيجابيات فرضها ممثلو قوى التجمع الوطني الديمقراطي في اللجنة التي وضعته ظلت معظم بنوده معطلة وماكان يطبق ، مثل الإعتقال ودور جهاز الأمن وحدود نشاطه ، ظل مناقضاً بل ومنافياً لما جاء في المادة (151) من الدستور لكل بنودها ونصوصها وهذا مثال لعشرات الأمثلة التي يمكن إيرادها .
الأهم من ذلك كله أن مواصلة العمل بهذا الدستور مع حذف ما يخص الجنوب بعد الإنفصال أمر لايستقيم مع مستجدات الواقع . فقد قبل الشعب السوداني إتفاقية السلام والدستور الإنتقالي كأمر واقع فرضه توازن القوى في الصراع السياسي . وبإنتهاء أمد الأتفاقية تنتهي الشراكة ومانتج عنها من دستور . هذا الوضع يستوجب وضع دستور جديد يشترك في صناعته كل أهل السودان بحدوده الجديدة .
إن ثراء الندوة التي أقيمت في برج الفاتح يكمن في أنها نقلت تجارب بعض الشعوب مثل جنوب أفريقيا التي إتسمت صناعة دستورها الدائم بالمشاركة الشعبية الواسعة في مداولات مشروع الدستور المقترح أولاً وإدخال التعديلات اللازمة عليه ثم طرحه مرة ثانية للمراجعة النهائية جماهيرياً قبل إجازته في إستفتاء شعبي بصورة ديمقراطية .
[COLOR=blue]صناعة الدستور قضية سياسية (2-2)[/COLOR]أن الدستور، رغم أنه أبو القوانين ، إلا أن صناعته قضية سياسية على درجة قصوى من الأهمية . فهي تهم كل الشعب. فقبل أن يتحول إلى مواد وبنود ونصوص، لا بد أن يحدد شعب السودان كيف يحكم وكيف تتم التنمية المتوازنة لكل أقاليم البلاد وكذلك الصناعة والخدمات دون تهميش أو استثناء إقليم ،بالقدر الأكبرمن الزراعة والصناعة والمؤسسات والخدمات . وأن ينص فيه بوضوح على رفض سياسة الاقتصاد الحر الذى دمر البلاد واستقطب الثروة فى أيدي قلة من الرأسماليين الطفيليين على حساب أكثر من 95% من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر . وكيف يكون القطاع العام له اليد العليا فى التنمية بإصلاح مشاريعه الزراعية والصناعية . وإعادة النظر فى الخصخصة وما أحدثته من دمار اقتصادي وتشريد للعالشعب.هدف المراجعة الشاملة لاستعاد ماخصخص للدولة .ووضع قوانين صارمة ورادعة تحد من الفساد وكل من تمتد يده لأموال الشعب .
كل ما تقدم ذكره لا يمكن أن يتحول إلى واقع وليس نصوصاً زاهية دون تنفيذ إلا أذا كان دستوراَ ديمقراطياَ يستند الى حق المواطنة التى تساوى بين أفراد الشعب بصرف النظر عن الدين أو اللون أو العرق أو الجنس أو الجهة واحترام الرأي الآخر والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة .
دستور يضمن إستقلال القضاء وحيدته ونزاهته . وأن تصبح أجهزة الجيش والشرطة والأمن والخدمة المدنية أجهزة قومية وليست تابعة لحزب ، كما هو الحال الان . دستور يتماهى مع الاتفاقات الدولية لحقوق الانسان كشرط لازم لدولة ديمقراطية حديثة يستقيم عودها مع ما يحدث من تطورات فى العالم حولنا .
هذا الدستور يشترط وجود سلطة وطنية ديمقراطية لتنفيذه . خاصة لرالجديد،عب والاستماع لرأيه وهذا يستوجب رفع كل القيود عن حرية الصحافة والتعبير والتجمعات وقيام النقابات المنتخبة ديمقراطياً ،والندوات فى الساحات العامة وحق التظاهر والاضراب وكل الوسائل التى يعبر بها الشعب عن رأيه ويساعد السلطة النابعة من رحمه فى التعرف على مواضع قصورها وأخطائها التى ترتكبها هي أو المتنفذون فيه فى المؤسسات التى يديرونها.
الواقع الجديد ، يفترض تقييم التجارب السابقة للحكم قبل الأقدام على وضع الدستور . على رأس تلك التجارب على سبيل المثال لاالحصر ، تجربة الجمهورية الرئاسية والبرلمانية. فقد أكدت تجارب أكثر من خمسين عاماً أن الجمهورية الرئاسية تتحول إلى ديكتاتورية لحكم الفرد. وتهيمن فيها النخبة الحاكمة المقربة من سدة الرئاسة على كل مفاصل السلطة والثروة. إلى جانب ما حدث فى عهود الحكم العسكري الثلاثة خاصة فى عهد نميري والبشير من توسع مهول فى الأجهزة الأداريةوالجيوش الجرارة من العاملين فى المناصب العليا الذين تبتلع مرتباتهم ومخصصاتهم أكثر من 78% من الفصل الأول على حساب ما كان يمكن توفير فوائضه للصرف على التنمية والخدمات ورفع المعاناة عن الشعب.
لقد ظل الحزب الشيوعي منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا ضد الجمهورية الرئاسية ومدافعاً أصيلاً عن الجمهورية البرلمانية وتقليص جهاز الدولة ليصبح بسيطاً وقليل التكلفة.ولهذا كنا وما زلنا مع إعادة تقسيم السودان الى الأقاليم القديمة وهذا ما نطالب بوضعه فى الدستور الجديد بعد انفصال الجنوب . وأن يكون رأس الدولة مجلساً يجمع رؤساء الأقاليم المنتخبين ديمقراطيا هذا يساعد فى تمكين وحدة ما تبقى من السودان . رغم أنه ليس أحد أسبابها الرئيسية. فالوحدة قوامها المساواة فى التنمية وقسمة السلطة والثروة بعدالة بين أقاليم السودان المختلفة .
هذا هو الذى يبعد التهميش المطلق الذى هو درس لا ينسى مطلقاً، لأنه السبب الاساسى فى الحروب والصراعات التى دارت فى بلادنا منذ الاستقلال ، وهو السبب المباشر فى انفصال الجنوب .
لقد ميزها،اهمة دكتور الطيب زين العابدين من أميز المساهمات التى قدمت فى الندوة واستمع إليها الحضور باهتمام واستحسان بالغين . فقد ميزها ، أسفه عن أن السودان ومنذ الاستغلال مازال يبحث عن دستور ً دائم نابع من المشاركة الفعلية للشعب . وأن الحكومات العسكرية التى عمرت طويلاً فى الحياة السياسية ، مقارنة باثني عشر عاماً من حكم الأحزاب ،حكمت البلاد بمراسيم دستورية أو جمهورية.
دستور الإنقاذ على سبيل المثال جاء تسع سنوات من وقوع الانقلاب العسكري فى يونيو1989م واستبدل فى عام 2005 بعد اتفاقية السلام الشامل بالدستور الانتقالي السارى المعدل حالياً.
ولهذا فإن فترة ما بعد الانفصال تجسد واقعاً جديداً تتطلب صياغة دستور جديد يشترك فى وضعه كل آهل السودان بكل تنظيماتهم الحزبية والنقابية وتنظيمات المجتمع المدني الأخرى كل بثقله الفكري والعددي وأثره فى الانتاج والحياة العامة
خاصة النساء والتحولات الهائلة التى حدثت وسطهن .
يستند الدستور الجديد فى مرجعيته على دساتير وتجارب شعب السودان الماضية وتراثه وتقاليده الايجابية وماعاناه ولازال يعانيه من الأنظمة الديكتاتورية التى مارست كل أنواع القهر والتسلط للانفراد بالسلطة والثروة والبقاء فى كراسي الحكم الى (يوم يبعثون) كما يرد علاه الإنقاذيين .
دستور يسد كل المسارب التى تفتح الباب للي عنقه والالتفاف عليه وتخطيه بعبارات مثل (وفقاً للقانون) أو بمراسيم جمهورية فى غياب منظمات الشعب تمثل خنجراً يغرس فى خاصرته .
فوق ذلك كله فان وجود دستوري ديمقراطي قولا وفعلا رهين بنضال يومي جماهيري واسع النطاق ، يلجم الممارسة القهرية الراهنة
الميدان