الإنسان المتعلم مؤرخا

الإنسان المتعلم مؤرخا (1-2)
رباح الصادق
ما من سوداني وطني إلا وهو مشفق مما يعانيه الوطن، ومن مستقبله القريب والبعيد. وبينما نقلّب الاحتمالات فيما يسميه الفرنجة (فيوتشرولوجي) أي علم قراءة المستقبل، ظهرت لنا صورة أحببنا أن نشارك بها القارئ الكريم، لعلها تفترع بابا في نقاش ما جرى في بلادنا وما يمكن أن يجري لها مستقبلا. نتناقش اليوم حول نظرات المتعلمين في بلادنا لغيرهم، وفي المرة القادمة بإذن الله نناقش صدى ذلك في أيامنا المقبلات.
وأعترف أن هذا النقاش أثارته برأسي فقرة من كتاب الدكتور عبد الله محمد قسم السيد (الصادق المهدي وأزمة الديمقراطية في السودان: الحقيقة والجرأة في التساؤل) سوف ننقلها أدناه، ولكنه نقاش متصل بجهد آخر أقوم به لقراءة الكدح السوداني نحو وطن ماجد.
والكتاب واحد من نقاشات الطبقة المثقفة الجديرة بالنظر والتأمل. وقد طبع لأول مرة عام 1990م أي مباشرة بعد استيلاء الإنقاذيين على السلطة، وفي فورة الحسرة على ضياع الديمقراطية، مملوء بالسخط على الجميع الذين يراهم الكاتب جميعا مسئولين بقدر على ما حدث، ولم يستثن قسم السيد أحدا. ولكن قراءة الكتاب بتأن قد تجعل كاتبه يضع المسئولية على جهات أكثر من أخرى، والأهم من ذلك أن قسم السيد ينظر إلى جانب لم تعهد الطبقة المثقفة النظر إليه، وهو الناس العاديون.
وقد ظل هؤلاء القوم بنظر متعلمة المدارس مجرد غوغاء تسلبهم الطائفية أو القبلية لبهم، ولا أبرئ الطائفية والقبلية من المحن، ولكني أظن من الخطل النظر للناس كل الناس باعتبارهم رعاع لا يؤبه لهم يساقون كالسوائم فقط لأنهم لم يتعلموا في مدارس كتشنر أو مدارس المؤتمر الأهلية.
ويقلب بعض كتابنا الأوراق يمينا ويسارا، إلا أنهم عن هؤلاء الناس الذين هم الشعب السوداني وليس سواهم يصدون. وقد رأيت ذات مرة في بعض كتابات أستاذنا عبد الله علي إبراهيم منذ وافته نفحة أو حالة المصالحة والتي أرّخ لها في السبعينات من القرن الماضي، رأيت فيه محاولة للنظر (بعطف) على بعض الناس الذين لا يعطف عليهم سواد المتعلمة، وكانت نظراته في بعضها متناغمة مع تخصصه العلمي كأستاذ لعلم الفولكلور وأحد رواده في السودان، وهو علم يسوق أهله للعطف مع حكمة الشعب ومعتقداته، ويحذرهم من رمي الأحكام المتحيزة والمتعجلة. وبالطبع فإن علماء الفولكلور ذاتهم أنواع تجاه هذه الفكرة، ولكن إبراهيم ذهب في هذا العطف مذاهب موزعة في كتاباته حول الجعليين والكبابيش، وفي سفره الممتع (الشريعة والحداثة) صب ذلك العطف على الخبرة التقليدية الممثلة في علماء الشرع (والمعهد العملي) ووصل بعطفه إلى الحركة الحديثة التي رفعت شعارات الإسلام بقيادة الدكتور حسن الترابي.
ونظرية العطف كما استنتها مي زيادة في الربع الأول من القرن العشرين، تدعو لأن يتناول الناقد الأدبي العمل وهو متعاطف مع صاحبه. قلت للدكتور عبد الله وقد شرفني بدعوتي لمناقشة كتابه ذلك في صحيفة (الصحافة) قبل سنوات، وأنا بعد من متتبعي أستاذنا مع شغف: تعاطفتَ مع الخبرة التقليدية، والقبلية، و(المعهد العلمي) وحتى مع النخبة الإسلاموية التي كنت تجافيها، وننتظر يوما تنظر لآخرين من سواد هذا الشعب بعطف، كذلك الذي جاء في مقالتك (التنوع الثقافي كغبينة سياسية) وتلك المقالة تبحث حول شوفينية الثقافة المركزية التي أسفرت عن وجهها يوم انتفاضة يوليو 1976م المسلحة واتهم المشاركون فيها وهم أنقياء أتقياء متجردين لله وللوطن بأنهم (مرتزقة) ثم كان الدليل هو أن اللهجة التي يتكلمون بها ليست سودانية بينما كانت شائعة في كثير من قبائل غرب السودان كما قال عبد الله!
لكن عبد الله لم يفعلها. وبينما وصل للقسمة الضيزى بين قطاعي البلاد التقليدي والحديث، فحد القطاع الحديث الذي يمكنه التعاطف معه هو القطاع الذي نال قسطا من التعليم في المعهد العلمي (الشيخ عبد الله البشير مثالا) أو الذي تعلّم ولكنه اختار شعارات إسلاموية (الترابي مثالا). فربما لا يستطيع بعد تصور أن بين هؤلاء (الرعاع)، الذين يتصورهم المتعلمون مجرد آلة لخدمة السادة، أية قيمة تستحق التعاطف. بل وجدته في العام 1995م يذكر كيف ذهبوا للجزيرة أبا بعد ضربها تلك الضربة المايوية الغجرية، قائلا: (وأذكر بعد ضربة الجزيرة أبا أننا مشينا نزلنا في لوكندة، ناس وراق عملوا استكتشات للناس المارقين من المحنة وجينا نقابلهم نحاورهم وديل يرسموهم. مشينا المحلج المحروق، بقينا نلقط القطن المحروق نشيلو، حريق بزرة في شوال نشيلو، حديدة ملوية في الحريق، ونحنا مشينا وعملنا تخليد للنصر ده على الرجعية). (محمد أحمد يحي محمد أحمد، أبو ذكرى أخذ زهور حياته ورحل).
نكأ قسم السيد هذه الآلام التي نحملها نحن، وقد تعلمنا، ولكن ظلت مصائرنا ومشاعرنا وأيدينا متماسكة مع الجزء من الشعب الذي برغم قلة حظه من التعليم هو الأوفر بصيرة، والأكثر تضحية من أجل هذه الأرض، حينما قال: (الإنسان المتعلم استطاع لفترة طويلة من الزمان أن يخدع الشعب السوداني ويمحو الأحداث من ذاكرته، ويصورها كأنه هو الجهة التي صدرت عنه، وأنه هو الدينمو المحرك لها، وكما يقول المثل السوداني (العندو القلم ما بيكتب نفسو شقي) فوجود القلم عند الإنسان المتعلم يسانده بعض من ذوي الغرض، استطاع أن يوضح للشعب أنه الإنسان الثوري ولولاه لم تكن هناك أحداث في السودان. إن الإنسان المتعلم قد اسهم في أحداث السودان ولكن بقدر قد يكون أقل من رجل الشارع العادي، فأحداث السودان السياسية صورت جلها على أن مصدرها الإنسان المتعلم وأهمل كل جانب يقول غير ذلك. ولهذا السبب فقد أهمل ذكر ثورة ود حبوبة وثورة السلطان علي دينار في الريف السوداني لأن قادتها (جهلة) بمعيار التعليم الحديث في نظرهم، أما ثورة 24 والتي أتت كرد فعل لثورة سعد زغلول بمصر فقد كان لها صدى واسع في كل مدن السودان. وكذلك كان حال مؤتمر الخريجين وأهملت تماما أحداث مارس 1954م.)
والمأساة أبعد مما صوّره قلم قسم السيد، فحوادث مارس لم تهمل، لقد شوهت وصارت سبة في وجه الأبطال الذي ساموا الروح رخيصة من أجل استقلال البلاد، نعم خلدهم كثيرون داخل كيانهم ولهج بحمدهم شعراء الأنصار وشاعراتهم كقول الشاعرة بت أيوب: حوادث مارس قوية/ أهل الذاكرة الجلية/ البي النيم بواجهوا البندقية/ وفي الرصيف قبل الهوية/ هاك يا سمك جاتك هدية! ولكن صارت الحوادث في مفكرة (الإنسان المتعلم) تعني الغوغائية والتوحش والبربرية! هكذا يقلب (الإنسان المتعلم) حقائق تاريخنا، ويجعل صفحات بطولاتنا، هي إما صفحات في دك الرجعية أو قتل البرابرة!
نواصل بإذن الله،
وليبق ما بيننا
الراي العام
الاستاذه رباح لماذا كل مقالاتك وكتاباتك تدور حول السيد الصادق مع انه من اكبر المشاركين فيما وصل اليه السودان اليؤم برغم امكانياته الفكريه الهائله والتي لم يستطع ان ينقذ السودان بها وما حكم هولاء الاوباش النازين الا نتيجه لضعفه في اداره امور الوطن وحري به وباسم الديمقراطيه التي يومن بها قلبا وقالبا ونحن له شاهدون ان يعتذر الى الشعب السوداني ويعتزل العمل السياسي مع الاحتفاظ بحقه كمفكر في ابداء رايه في كل مابداء له