جدلية الوحدة والإنفصال

اتخذ السودان موقعه الجغرافي اﻻستراتيجي في افريقيا واطلق عليه اسم افريقيا الصغرى ﻹتساع اراضيه التي كانت تقدر بمليون ميل مربع قبل انفصال الجنوب، وكذلك كان له موضع اقليمي رفيع كونه يمثل نقطة تﻼقح الشعوب ومركز تجاري يربط افريقيا بالشرق اﻻوسط ومصدر لتوفير اﻻغذية النباتية ومواد الصناعات المختلفة، لذى اطﻼق عليه اﻻقتصاديون نظرية } السودان سلة غذاء العالم { طبقا لتعدد موارده وضخامتها التي تجعل السودان يتصدر اقتصاديا وسياسيا لقدرته علي لعب دور اقليمي ودولي لحل مشكﻼت افريقيا والمساعدة في تنميتها ونهضتها، وكذلك من النواحي اﻻجتماعية والثقافية نجده وطن متنوع ومتعدد الشعوب و الثقافات انصهارها وتمازجها كان كفيل بإنتاج مجتمع متحضر زاخر بإرث عريق يثير دهشة العالم، لكن اشد اﻻمور التي نسفت كل هذه المقومات، هو سقوط السودان تحت دوائر الدكتاتوريات والبيروقراطية القاهرة التي لعبت ادوار سلبية في ادارة تنوعه وموارده ومؤسساته الرسمية مما افرز حالة نفور مجتمعي دائم من هذه البﻼد، وبطول اﻻيام وعرضها وجدت بعض الشعوب حقوقها الوطنية تسلب وتمارس عليها العنصرية والتهميش المقصود وظهرت طبقات استقراطية وبرجوازية تحكمت في السلطة والموارد ونشئت بموجب ممارساتها تلك نظرية المركز والهامش مما دفع الكثير من اﻻقاليم التي تعاني التهميش الي المطالبة بالكونفدرالية وهنا واجهها المركز السياسي واﻻقتصادي واﻻجتماعي بلعنته رافضا مطالبها ساعيا لترويع ثوارها واعادة فرض السيطرة عليها بالقوة العسكرية، فتشكلت حركات ثورية تبلورة اهدافها طبقا لواقع وظروف نشأتها ولما اشتد الصراع ذاد حدت تمسكها ببرامجها واهدافها حتي بلغ اﻻمر مداه واصبح من الﻼ ممكن تعايش تلك المجتمعات مع بعضها البعض فتحول خطاب قادتها ومثقفيها الي المناداة باﻹنفصال إذ ان تلك الشعوب باتت تقتنع بشكل ﻻ يترك للشك مجال انها تقبع تحت حكم اﻻستعمار وإن اختلف لونه عن سابقاته الترك إجنليزية بمساندة مصرية في المنطقة، هكذا اقدم الشعب الجنوب سوداني علي اﻹنفصال في مطلع العام 2011 م بموجب اتفاقية السﻼم الشامل ” نيفاشا ” بعد استفتاء كانت نتائجه صادمة للمجتمع السوداني رغم علمه المسبق بعدم توفر جاذبات الوحدة وفق ما كان من سياسات عنصرية وجهوية واحتقان اجتماعي عبر عنه الكاتب الطيب مصطفى عبر صحيفة ” اﻹنتباهة ” وترجم ذلك بسلوك عنيف عند اعﻼن انفصال الجنوب، وقتها زبح الطيب ثور اسود بالخرطوم ولبث العنصرية محتفﻼ بانقسام السودان، وقتها كانت الحرب تدور في إقليم دارفور منذ العام 2003 م وكان ثوارها يحملون ذات اﻻهداف التي حارب من اجلها الجنوب المنفصل، وجد النظام الحاكم نفاجا ليستعد مرة آخرى ويشد الرحال الي الغرب لتخريبها وسحقها فكانت متحركات القوات المسلحة ترسل الي هناك بين الحين واﻻخر وكان جهاز اﻻمن والمخابرات يقمع وينكل بطﻼب دارفور واﻻعﻼم الحكومي يعمق الجهوية والعنصرية ويصور مجتمع دارفور بأبشع الصور الﻼ اخﻼقية والﻼ انسانية، وصرعان ما الحقت وﻻيتي النيل اﻻزرق وجنوب كردفان باﻹضافة لمنطقة ابيي بمشروع التقسيم اﻻنقاذي قبيل انفصال الجنوب، وتم اعتقال العشرات من المواطنين من شتى الوﻻيات ﻹنتمائهم للحركة الشعبية لتحرير السودان،منهم من افرج عنه ومنهم من حكم عليه باﻻعدام ومنهم من حكم عليه بالسجن المؤبد وكنت من المفرج عنهم وقتئذا، وتراكم البؤس والظلم جعل ابناء تلك اﻻقاليم علي يقين بإستحالة البقاء في السودان الموحد ورغم ان الكثير من الحركات الدارفورية ﻻ تظهر مطالبتها باﻹنفصال إﻻ ان اﻹنفصاليين داخلها يتمددون ويتفرعون ونسمع هنا وهناك اقوال تعيد الحديث عن دارفور سابقا كانت دولة وحدها، وكانت المشورة الشعبية في النيل اﻻزرق وجنوب كردفان وابيي اقرها الدستور السوداني للعام 2005 م بعد اﻻتفاق عليها ضمن اتفاقية ” نيفاشا ” والتي لم تسقط رغم تعطيلها بالحرب فثبتت قواعدها ومرتكزاتها علي ارض الواقع و اعترف المجتمع الدولي بها كخيار متفق عليه، وﻷن كل المواثيق واﻻعراف الدولية ﻻ تتناقض مع هذه المطالب وبل تدعمها توافقا مع مواقف دعاتها، لذى اﻵن اصبح من السهل جدا تكرار مشهد انفصال الجنوب فالغرب هو اﻻقرب لذلك والشرق ايضا الناظر لنظام الحكم هناك واستقﻼليته اﻻدارية رغم ضبابيتها فهي توحي بما هو اقرب لﻺنفصال، هذا علي مستوى حكام الشرق منسوبي النظام اما المعارضين فقد جاهروا بذلك وهناك انفصالين من الشرق رغم عدم نضج هذا التوجه إﻻ اننا ﻻ نستطيع انكار بوادره الواضحة، فمسألة الوحدة في السودان وفق معاير النظام اﻻنقاذي وتنظيراته باتت اشبه ب ( لعبة الكراسي ) ﻷن الوضع في السودان يختلف عن اي دولة آخرى، فالشعوب هنا ما تعارف منها تجاذب وما لم يتعارف تنافر وهذا وضع يتطلب توليفة هادئة ﻻ تأجيج الصراعات القبلية واستخدام سياسات اﻻرض المحروقة ضد هذه المناطق وبث الكراهية بين جميع مكونات الدولة ولن يقدم الدولة خطوة واحدة، بل سينتكس الجميع وستنشطر البلاد الي دويلات صغيرة عاجزة عن النمو والنهضة، وسوف نشهد إنفلات أمني غير مسبوق وفوضى عارمة من الحدود تجتاح المدن والقرى وبوادرها واضحة، ما سيؤدي الي تلاشي السودان اسما وتاريخا وموقعا جغرافيا من خارطة افريقيا والعالم،
نحن الآن في حوجة ماسة لبناء وطن جديد بمفاهيم جديدة تستوعب كل هذا التنوع وتعيد تقسيم السلطة والثروة بشكل عادل مع نظام ولائي اتحادي مستقل تشريعيا وتنفيذيا دون أن يخرج من التوجه العام للدولة، نحتاج تحقيق الديمقراطية والحرية وإسترداد الكرامة الإنسانية، لا يمكن أن تتقدم الدولة ومؤسساتها تخضع لقوانين بيروقراطية تحكم قبضة فئات بعينها، مع اصتياد العمال وصغار الموظفين واستخدامهم كمصادر ووقود لتضخيم عوائد تلك المؤسسات، وليتها عوائد عائدة للوطن والمواطن بما هو خير، بل ستذهب الي جيوب “الجلابة” وتصرف في دعم قوات الدعم السريع بشراع الأسلحة الروسية والبلا روسية والصينية لتمارس الإبادة الجماعية بحق شعب دارفور وجبال النوبة جنوب كردفان والنيل الأزرق، لذلك نحتاج لترميم السودان من جديد وبناء دولة تمثل كل اطياف الشعب السوداني حتي ننطلق الي افق ارحب.
سعد محمد عبدالله
القاهرة
[email][email protected][/email]