
تحتفل بلادنا في الأول من يناير من كل عام بذكرى الاستقلال ، وخروج المحتل البريطاني منها .
الاستقلال يعنى الانعتاق من المحتل ، ونيل الحرية في القرار ، وإدارة شؤون البلاد بأيدي أبنائها.
خرج المحتل ، ولا أقول المستعمر؛ لأن كلمة “استعمار” حُرفت عن مدلولها اللغوي ، مستعمر معناها يعمر الأرض، ويسعى في عمران البلاد ” هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ” هود 61 ، خرج المحتل ، ولكن لم ينجح أبناء البلاد في إدارة شؤونها.
منذ الاستقلال عام 1956 ولحد الآن ، مرت خمسة وستون عاما ، لم يتطور شيء في البلاد ، بل نتراجع في كل مناحي الحياة ، في الديمقراطية والاقتصاد والتعليم والصحة والعلاقات الخارجية والأمن ، والرياضة و”الأخلاق” …
أما الديمقراطية والمدنية ،فقد حُكم السودان بحكومات عسكرية لمدة اثنين وخمسين عاما ، ولم تقم الديمقراطية والمدنية فيه إلا ثلاث عشرة سنة فقط .
أما الاقتصاد فدونك قيمة العملة مقابل غيرها ، فكم كانت قيمة الجنيه السوداني، وكم صارت ؟ ، كيف كان رغد العيش ، وكيف صار ذلك العيش شظفا ، وأصبحت المعيشة ضنكا .
أما التعليم ،فحدث ولا حرج ، تعطيل وإغلاق وتخبط وعمل بدون خطط وتأجيل ، وفاقد تربوي يسطر على العمل التعليمي ، ومخرجات ضعيفة ، ونواتج تعلم لا تساوي شيئا …
أما الأخلاق فقد هوت مع ما هوى ، وبادت مع ما باد ، تجد الفساد مستشريا، والأمانة رفعت ، ووسد الأمر لغير أهله ، فنهب من يقدر على النهب ، وسرق من يقدر على السرقة .
لذا تجد النوستالجيا ، والحنين للماضي سيد الموقف في كل حواراتنا ، لأننا لا نملك حاضرا مميزا ،وليس لدينا معطيات أو مبشرات تجعلنا نتطلع نحو مستقبل زاهر .
أعتقد أن الخلط في لهجتنا بين حرفي القاف والغين تجلى بدقة في أمر “الاستقلال”، فنحن أمة حدث استغلالها وليس استقلالها ، ونحن شعب اُستُغِل ، ولم يستقِل .
فرح الشعب بخروج المحتل البريطاني ، ولكن لو بقي المحتل قليلا لكان أفضل ، حتى ينضج قادتنا ، وتعرف أحزابنا أبجديات العمل الوطني، ويعي مفكرونا ،ويفهم ساستنا كيف يديرون البلاد .
أحزاب سياسية شاخت، ولم تجدد نفسها ، همها مصالحها الشخصية ،ولا تسعى لخدمة الوطن ولا المواطن.
حركات متمردة تقاتل الوطن والمواطن عبر قتالها للحكومات ، وما أن تجلس للمفاوضات مع الحكومات المتعاقبة إلا وتكون شروطها الأساسية المناصب ، وتوزيع الكعكة ، حتى أنها لم يتبق منها شيء ، ليتهم يضعون تنمية مناطقهم أو إنشاء مشاريع في مناطقهم من ضمن شروطهم للسلام.
كل عام والبلاد تنقص من أطرافها ، تثلم كل مرة في ثغر من ثغورها ، وتتراجع حدودها ، وتتقلص مساحتها .
قوات مسلحة أُنشئت للدفاع عن البلاد ،ولكنها تدافع عن مصالحها ؛ فسعت لإقامة الشركات والمضاربات والتجارة ، ونسيت مهامها، وقتلت المواطن ودمرت الوطن.
قوات نظامية بدلا من أن تحمي المواطن ، وتبسط الأمن، تكون هي سبب فزعه وإرعابه، وبث الهول فيه.
قبائل كانت تتعايش وتتصاهر وتتعاون ؛ لتشكل نسيج بلادي المتسق ، وتنظم فسيفسائه المبهج ،والآن تتقاتل ، وتتناحر .
بعد كل هذا ، هل ذكرى الاستقلال مناسبة تستحق الاحتفال بها ؟
لا مانع أن نحتفل بالاستقلال إن تطورنا ونهضنا أو على الأقل حافظنا على الوطن وعزته ومكانته .
دول لم تكن شيئا مذكورا إبان استقلالنا في 1956، والآن تجدها شامة في خد الزمان ،وغرة في جبين الدهر، ونحن أصبحنا نسيا منسيا .
نعم، اُستُغِل ذلك الوطن ، ونُهبت خيراته ،ودُمر كيانه ، ولم يستقل حقيقة ؛ لأن المحتل موجود ،وإن تغير لونه ، وتبدل شكله ، فالوطن اُحتل بيد أبنائه الذين لم يقدروا على إدارة شؤونه ، فأعادوه للوراء سنين ضوئية .
أبعد هذا كله ، نحتفل بذكرى الاستقلال ؟
وهل هو استقلال أم استغلال ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر



