مقالات وآراء

ما بين الاستقلال والاستغلال

طارق يسن الطاهر

 

تحتفل بلادنا في الأول من يناير من كل عام بذكرى الاستقلال ، وخروج المحتل البريطاني منها .

الاستقلال يعنى الانعتاق من المحتل ، ونيل الحرية في القرار ، وإدارة شؤون البلاد بأيدي أبنائها.

خرج المحتل ، ولا أقول المستعمر؛ لأن كلمة “استعمار” حُرفت عن مدلولها اللغوي ، مستعمر معناها يعمر الأرض، ويسعى في عمران البلاد  ” هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ”  هود 61 ، خرج المحتل ، ولكن لم ينجح أبناء البلاد في إدارة شؤونها.

منذ الاستقلال عام 1956 ولحد الآن ، مرت خمسة وستون عاما ، لم يتطور شيء في البلاد ، بل نتراجع في كل مناحي الحياة ، في الديمقراطية والاقتصاد والتعليم  والصحة والعلاقات الخارجية والأمن ، والرياضة  و”الأخلاق” …

أما الديمقراطية والمدنية ،فقد حُكم السودان بحكومات عسكرية لمدة  اثنين وخمسين عاما ، ولم تقم الديمقراطية والمدنية فيه إلا ثلاث عشرة  سنة فقط .

أما الاقتصاد فدونك قيمة العملة  مقابل غيرها ، فكم كانت قيمة الجنيه السوداني، وكم صارت ؟ ، كيف كان  رغد العيش  ، وكيف صار ذلك العيش شظفا ، وأصبحت المعيشة ضنكا .

أما التعليم  ،فحدث ولا حرج ، تعطيل وإغلاق وتخبط وعمل بدون خطط وتأجيل ، وفاقد تربوي يسطر على العمل التعليمي ، ومخرجات ضعيفة ، ونواتج تعلم لا تساوي شيئا …

أما الأخلاق فقد هوت مع ما هوى ، وبادت مع ما باد ، تجد الفساد مستشريا، والأمانة رفعت ، ووسد الأمر لغير أهله ، فنهب من يقدر على النهب ، وسرق من يقدر على السرقة .

 

لذا تجد النوستالجيا ، والحنين للماضي سيد الموقف في كل حواراتنا ، لأننا لا نملك حاضرا مميزا ،وليس لدينا معطيات أو مبشرات تجعلنا نتطلع نحو مستقبل زاهر .

 

أعتقد أن الخلط في لهجتنا بين حرفي القاف والغين تجلى بدقة في أمر “الاستقلال”، فنحن أمة  حدث استغلالها وليس استقلالها ، ونحن شعب اُستُغِل ، ولم يستقِل .

فرح الشعب بخروج المحتل البريطاني ، ولكن لو بقي المحتل قليلا لكان أفضل ، حتى ينضج قادتنا ، وتعرف أحزابنا أبجديات العمل الوطني، ويعي مفكرونا ،ويفهم ساستنا كيف يديرون البلاد .

أحزاب سياسية شاخت، ولم تجدد نفسها ، همها مصالحها الشخصية ،ولا تسعى لخدمة الوطن ولا المواطن.

حركات متمردة تقاتل الوطن والمواطن عبر قتالها للحكومات ،  وما أن تجلس للمفاوضات مع الحكومات المتعاقبة  إلا وتكون شروطها الأساسية المناصب ، وتوزيع الكعكة ، حتى أنها لم يتبق منها شيء ، ليتهم يضعون تنمية مناطقهم أو إنشاء مشاريع في مناطقهم من ضمن شروطهم للسلام.

كل عام والبلاد تنقص من أطرافها ، تثلم كل مرة في ثغر من ثغورها  ، وتتراجع حدودها ، وتتقلص مساحتها .

قوات مسلحة أُنشئت  للدفاع عن البلاد  ،ولكنها تدافع عن مصالحها ؛ فسعت لإقامة الشركات والمضاربات والتجارة  ، ونسيت مهامها، وقتلت المواطن ودمرت الوطن.

قوات نظامية بدلا من أن تحمي المواطن ، وتبسط الأمن، تكون هي سبب فزعه وإرعابه، وبث الهول فيه.

قبائل كانت تتعايش وتتصاهر وتتعاون  ؛ لتشكل نسيج بلادي المتسق ، وتنظم فسيفسائه المبهج ،والآن تتقاتل ، وتتناحر .

بعد كل هذا ، هل ذكرى الاستقلال مناسبة تستحق الاحتفال بها ؟

لا مانع أن نحتفل بالاستقلال إن تطورنا ونهضنا أو على الأقل حافظنا على الوطن وعزته ومكانته .

دول لم تكن شيئا مذكورا إبان استقلالنا في 1956، والآن تجدها شامة في خد الزمان ،وغرة في جبين الدهر، ونحن أصبحنا نسيا منسيا .

نعم، اُستُغِل ذلك الوطن ، ونُهبت خيراته  ،ودُمر كيانه ، ولم يستقل حقيقة  ؛ لأن المحتل موجود ،وإن تغير لونه ، وتبدل شكله ، فالوطن اُحتل بيد أبنائه الذين لم يقدروا على إدارة شؤونه ، فأعادوه للوراء سنين ضوئية .

أبعد هذا كله ، نحتفل بذكرى الاستقلال ؟

وهل هو استقلال أم استغلال ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طارق يسن الطاهر

<[email protected]>

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..