الرقم الغائب في معادلة الديمقراطية..الانتخابات السودانية خرج منها الشريكان بما يريدان، لكن السودان هو الخاسر.

تبدو البنية العربية ممانعة في صلابة ظاهرة لأي تحول ديمقراطي جوهري. وقد تفادى الوطن العربي باقتدار موجة الديمقراطية التي فجرتها إصلاحات جورباتشوف في ثمانينيات القرن الماضي، والتي ترتب عليها زوال النظم الشمولية في شرق أوروبا، وكان مآل الاتحاد السوفييتي نفسه من جراء تلك الإصلاحات حجة قوية لأولئك الذين تصدوا بنجاح لموجة انتشار الديمقراطية آنذاك، فالقفز غير المحسوب أدى إلى تفكك الدولة السوفييتية واختفائها من خريطة العالم. ثم تمكن العرب بعد ذلك من صد "الهجمة الديمقراطية الشرسة" على المنطقة من قبل إدارة الرئيس الأميركي السابق، وإن ساعدهم على ذلك أن بوش لم يكن يبتغي "وجه الديمقراطية" فيما يفعل، وإنما كان غرضه الأساسي هو بسط الهيمنة الأميركية الكاملة على المنطقة. ولكننا الآن نواجه أنفسنا بصفة أساسية، أي نواجه تحدي الديمقراطية دون ضغوط يعتد بها من الخارج، بعد أن تيقنت القوى الخارجية "الديمقراطية" من أن التطبيق السليم للديمقراطية قد يأتي بما لا تشتهيه سفنها.

شهد العام السابق انتخابات برلمانية في لبنان، وشهد هذا العام انتخابات في كل من العراق والسودان والأردن ومصر، وفي جميع الحالات جاءت التجربة مشوبة بما كشف الهوة السحيقة التي تفصل بيننا وبين الديمقراطية السليمة. في الحالتين اللبنانية والعراقية -مع خلاف في التفاصيل- استطالت المدة ما بين إعلان نتيجة الانتخابات وتشكيل الحكومة على النحو الذي خلق أزمة سياسية ممتدة ما زال العراق يعاني منها حتى الآن، وزاد العراق بلجوء الحكومة القائمة قبل الانتخابات إلى وسائل سياسية لتعديل الأوزان النسبية للكتل الفائزة بالمقاعد النيابية، وكانت الحجة الحاضرة والسهلة دائماً هي "أزلام النظام البائد"، وإن كان التعديل للأمانة لم يفض إلى تغيير جذري في خريطة النتائج. غير أنه في الحالتين غاب مفهوم الديمقراطية بمعنى "حكم الأغلبية"، وتم التركيز على فكرة حكومة "الوحدة الوطنية"، وهي فكرة إيجابية في ذاتها، غير أنها صارت ترتبط بالعجز الحكومي عن الحركة المؤثرة في أي اتجاه.

كما أفلتت الانتخابات السودانية من محاكمة أكيدة، لأن شريكي الحكم في الشمال والجنوب خرجا منها بما يريدان، لكن السودان يكاد يكون هو الخاسر، وإذا كان من المفروض أن تكون الديمقراطية آلية للتوحيد الوطني فإن السودان في سبيله إلى أن يفقد كيانه الحالي على رغم هذه العملية "الديمقراطية". وفي الأردن جرت الانتخابات في الشهر الماضي في ظل مقاطعة "الإخوان المسلمين"، وكانت نتائجها موضوعاً للانتقادات. ثم جرت الانتخابات البرلمانية المصرية في الأيام القليلة الماضية، وأثارت ما أثارته انتخابات سابقة عليها من تهم للحزب الحاكم بالتضييق على المرشحين المعارضين، لكن الجديد الذي انفردت به الانتخابات هذه المرة هو التخلي عن الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات، ومجافاة أحكام السلطة القضائية تماماً، سواءً تلك التي ألزمت الحكومة بقيد مرشحين رفضت الجهة الإدارية المختصة قبول أوراق ترشيحهم، أو تلك التي قضت بوقف الانتخابات في عديد من الدوائر قبل إجرائها، وأخيراً وليس آخراً تلك التي قضت ببطلان الانتخابات في عدد من الدوائر، وهي أمور تسبب مع غيرها مشكلة دستورية حقيقية للمجلس الجديد.

ليست ثمة تجربة واحدة في كل ما سبق إذن تسلم من النقد، ويمكن اعتبارها خطوة إلى الأمام في تطور الديمقراطية في الوطن العربي، فما هو الرقم الغائب في معادلة الديمقراطية العربية يا ترى؟ أهو ذلك المترتب على تدخل السلطة التنفيذية في الانتخابات؟ بالتأكيد يعد هذا سبباً مهمّاً، لكنه ليس موجوداً في كل الحالات، وليس موجوداً بالدرجة نفسها في جميع الحالات، ولذلك فلابد من تفسير معزز. أهو ناجم عن الإخفاق الواضح في بناء الدولة العربية الحديثة التي تعلو على الانتماءات الوطنية نحو فكرة "المواطنة"؟ يمكن القول أيضاً إن هذا يمثل سبباً إضافيّاً مهمّاً، لأن الدول العربية تكشف في أوقات الأزمات عن بنية اجتماعية ما زالت الانتماءات الأسرية والعشائرية تعد مصدراً أساسيّاً للقوة فيها إذا قورنت بالانتماءات الحزبية، وهكذا تتحول عملية الانتخابات بفرض نزاهتها إلى صراعات بين هذه التكوينات الاجتماعية من أجل مزيد من النفوذ. أم يكون الرقم الغائب في المعادلة نتيجة لفقدان التوازن الاجتماعي -أي التوازن بين الطبقات- داخل المجتمعات العربية؟ وبعبارة أخرى تظهر خبرة التطور الديمقراطي الحديث أن هذا التطور لم يكتمل إلا عندما شهد المجتمع توازناً حقيقيّاً بين طبقاته على النحو الذي يستحيل معه أن تتجاهل طبقة حاكمة الطبقات الأخرى في المعارضة. أما في بلداننا العربية فإن ميزان القوى بين الطبقات يتجه نحو مزيد من الخلل، بعد أن كانت عملية تصحيحه قد بدأت مع موجة السعي لتحقيق العدل الاجتماعي وبناء التنمية المستقلة في ستينيات القرن الماضي، غير أن سياسات التكيف الهيكلي في عقد السبعينيات من القرن نفسه قد تسارعت وتيرتها منذ النصف الثاني من الثمانينيات مع "انتصار الرأسمالية" على الاشتراكية. وليس ثمة ما يشير إلى وجود نية لدى النظم العربية أو رغبة من قبلها في تصحيح هذه الأوضاع، ناهيك عن تغييرها، طالما أنها نتاج تطبيق رؤية سياسية لا يمكن للمستفيدين منها أن يتخلوا عنها طواعية.

متى يمكن استحضار هذا الرقم الغائب الذي طال الاشتياق إليه في معادلة الديمقراطية العربية إذن؟ هناك إجابتان على هذا السؤال على طرفي نقيض: الأولى إجابة متفائلة ترى أننا كدنا نصل نهاية النفق، ونرى الأضواء خارجه. وتعتمد هذه الإجابة على حالة الحراك الموجودة حاليّاً في المجتمعات العربية. أما الإجابة الثانية فهي إجابة متشائمة، لأن المطلوب لتوفير هذا الرقم عملية "تاريخية" بكل المقاييس تتضمن بناء دولة حديثة تستند إلى مفهوم المواطنة، وتصحيحاً في الرؤى السائدة نحو ما يحقق حدّاً أدنى من العدل الاجتماعي، وكلاهما ليس مما يتيسر تحقيقه في عقد أو اثنين من الزمان. وقد يتسق مع هذه النظرة التشاؤمية أن بعض البلدان العربية لها تجارب في الممارسة الديمقراطية كادت تقترب من القرن عمراً، ومع ذلك فهي ما زالت بعيدة عن المثالية الديمقراطية، إن لم تكن أبعد عنها أكثر مما كانت عليه منذ قرابة القرن. وقد يتسق مع تلك النظرة التشاؤمية أيضاً أن نفراً من المثقفين العرب عقدوا العزم على مناقشة جادة لأزمة الديمقراطية في وطنهم العربي في ثمانينيات القرن الماضي تحت رعاية "مركز دراسات الوحدة العربية"، فلم يجدوا من قبل استضافتهم في هذه المناسبة سوى قبرص، وقد خرج عن اجتماعهم كتاب يعد مرجعاً لا غنى عنه لهذه الأزمة، لكن خطوة جوهرية واحدة إلى الأمام لم تتحقق. وللمتشائمين إذن بخصوص مستقبل الديمقراطية في الوطن العربي منطقهم، ولديهم أيضاً مؤشراتهم التجريبية على صحة هذا المنطق وآخرها هذه الانتخابات المتلاحقة المتنوعة التي لم تؤد إلى أي تقدم على طريق التطور الديمقراطي.

د. أحمد يوسف أحمد
– جريدة الاتحاد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..