مقالات وآراء

مدرسة الحوليات الفرنسية وفكرة كسر حلقات الدوائر الخبيثة في السودان والشب عن طوقها

طاهر عمر

 

كثر حديث النخب السودانية في الآونة الأخيرة عن الدائرة الخبيثة وخاصة دائرهتم الخبيثة التي قد أصبحت كمثلث برمودا ديمقراطية هشة ثم إنقلاب عسكري والغريب كل مقارباتهم لها لم تفارق حواف عقل الحيرة والإستحالة و خوفهم المرضي من سبر غورها بتجربة الإنسانية وقد أصبحت تراث إنساني يمكننا الإستفادة منه بعد أن أصبحت ذاكرتهم المحروسة بالوصاية عاجزة عن التفكير وعاجزة عن إدراك تجربة الإنسان وضمير الوجود في تحليله لظاهرة المجتمع البشري كما يقول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني.

لي ملاحظة وهي أن الدائرة الشريرة التي يتحدث عنها أغلب النخب السودانية ديمقراطية هشة يعقبها إنقلاب عسكري ما هي إلا إستلاف بغير ضمان على الرهان عليه وهو إستلاف لها من من حقل التنمية الإقتصادية ونظرياتها وجلبها الى حيز السياسة السودانية التقليدية. وكالعادة أن السياسي التقليدي السوداني يغيب عن أفقه الشرط الإنساني الذي يمثل الفلسفة السياسية التي تعطي إمكانية أخذ القرار والإختيار لنظام سياسي يتخذ من الديمقراطية الليبرالية سبيل لتحقيق إستقرار سياسي وتوازن إجتماعي.

وللأسف أغلب النخب السودانية مر عليها زمان كانت كما يقول الدكتور منصور خالد في توهّم جماعي بأن أقصر الطرق للتنمية الإقتصادية هو طريق الحزب الواحد و طريق الإشتراكية وهيهات ومنصور خالد يعد من النابهين لذلك إنتبه لهذا الخطاء الجماعي القاتل الذي أخذ من النخب عقود و هي تقيم في ضلالها القديم ولكن إنتباه منصور خالد للوهم الجماعي كان بعد فوات الأوان وبعد أن غاص السودان بأكمله في وحل الفكر الديني وأصبحت ساحة الفكر محروسة بعقل نخب سودانية محروسة بالوصاية وممنوعة من التفكير الذي يجسد فكر مجد العقلانية وإبداع العقل البشري ويبتعد عن أفكار عقل الأنوار والإجابة على سؤال ما التنوير؟.

الذي يمنعك أي سؤال ما التنوير والإجابة عليه بألا يفكر بدلا عنك امام أو ختم أو مرشد أو لجنة مركزية للحزب الشيوعي بنسخته التقليدية السودانية. على أي حال إستلفت النخب السودانية فكرة الدائرة الشريرة من حقول نظريات التنمية الإقتصادية في حديثها عن الدوائر الخبيثة ومحكمة الإغلاق وللأسف أهملت النخب السودانية كيف تقدم نظريات التنمية إمكانية كسر هذه الحلقات والشب عن طوقها كعادة النخب السودانية في وقوفها في المنتصف دون وصولها لآخر الشوط كما تفعل مراكز البحوث.

وبالتالي أصبح حديثهم عن الدائرة الشريرة حديث معلّق وفي أحسن أحواله حديث ود البلد في عقله التقليدي الذي يهاب أن يصل بالمعادلات لحلول تنتج توازن إجتماعي وتوازن إقتصادي في معادلات سلوكية للفرد في علاقته المباشرة بمفهوم الدولة الحديثة ودورها في تحقيق فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد.

وبالمناسبة وقوف عقل النخب السودانية في محطة عقل ود البلد الذي يعالج أكثر المشاكل المعقدة بعقل ود البلد سببه ضعف مناهجهم لذلك جاءت أغلب مقارباتهم لمشاكل المجتمعات الحديثة أي مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية مقاربات تقربهم يوما بعد يوم من الخروج من التاريخ وهذا سببه أن ضعف مناهجمهم كما قلت وهي مناهج لا يمكن أن تقدم لنا مفكر يكون في نفس الوقت فيلسوف ومؤرخ غير تقليدي وإقتصادي وعالم إجتماع مثلا كما نجد ريموند أرون يتصف بأنه عالم إجتماع و إقتصادي ومؤرخ وفيلسوف لذلك جاءت أفكاره تغطي مساحة واسعة لحقول مختلفة وهذا هو الغائب في جهود النخب السودانية مثلا نجد المؤرخ التقليدي السوداني يجهل النظريات الإقتصادية وتاريخ الفكر الإقتصادي ونظريات التنمية.

وبالتالي تجد كتابات المؤرخ التقليدي السوداني سرد لوقائع وحكي عن سير لأشخاص وسرد أحداث وحقب جيل عبر جيل في تراكم كمي يسد أمامك الأفق في وقت نجد أن المؤرخ في مدرسة الحوليات الفرنسية فارق سرد الوقائع والسير لأشخاص جيل عبر جيل وعبر سيره نظر للتاريخ على المدى الطويل وأدرك أن التاريخ على المدى على الطويل يتحول الى علم إجتماع لذلك كانت ركائز مدرسة الحوليات الفرنسية أنها فارقت الوثيقة المقدسة والمنهجية التاريخية التي نجدها ما زالت مقدسة عند المؤرخ التقليدي السوداني.

ولهذا السبب ما زالت ساحتنا السودانية أغلب كتابها من فصيلة المؤرخ التقليدي ورجال الدين والعسكر والدبلوماسيين ولمن يريد أن يتأكد عليه أن ينظر نظرة سريعة على قوائم الكتاب السودانيين سيجد كتاب من العسكر والدبلوماسيين ورجال الدين والمؤرخيين التقليديين وغياب تام وإهمال كامل لدراسة التاريخ الإجتماعي والتاريخ الإقتصادي بعيدا عن المنهجية التاريخية وبعيدا عن تقديس الوثيقة التاريخية كما نجدها في كتابات المؤرخيين السودانيين التقليديين لذلك لم يخرج من بين المؤرخيين التقليديين السودانيين عالم إجتماع البتة لأن أفقهم لم تلوح فيه فكرة مدرسة الحوليات أي أن التاريخ وأحداثه ودراسته على المدى الطويل يصير علم إجتماع.

ولهذا السبب كسد الفكر في الساحة السودانية وعندما تستلف النخب السودانية الدائرة الشريرة من حقل التنمية الإقتصادية تعالجها بفكر ود البلد وليس بمنهج مدرسة الحوليات في بحوثها عن التاريخ الإجتماعي والتاريخ الإقتصادي. ويمكنك أن تقول نفس ما قلت عن إستلافهم لفكرة المركز والهامش من حقول النظريات الإقتصادية أي ما قلته عن إستلالفهم الفاشل لفكرة الدائرة الشريرة من حقول التنمية الإقتصادية وكذلك جاءت مقارباتهم لا علاقة لها بهموم المجتمع الحديث وخاصة أن تاريخ الإنسانية قد أصبح لأول مرة تاريخ واحد لكافة الإنسانية بعد الثورة الصناعية والمضحك ان أغلب النخب السودانية تتحدث عن خصوصية لمجتمعنا وكأننا في جزيرة معزولة عن العالم.

ولكي أوضح أكثر مثلا في كتابات المؤرخ التقليدي السوداني أو الكاتب من العسكر أو الدبلوماسي السوداني أو رجل الدين يغيب ثالوث المقاربة بين الفلسفة والسياسة وعلم الإجتماع وهذا نادر في كتابات النخب السودانية أو ثالوث القانون والسياسة والديمقراطية كما نجده في كتابات هابرماس ونجد مثله في كتابات الدكتور عبد الله النعيم لذلك نجد أن الدكتور عبد الله النعيم في مقارباته للفكر الليبرالي أقرب لعالم الإجتماع من القانوني التقليدي السوداني وعبد الله النعيم يختلف عن القانونيين السودانيين التقليديين لأن مقارباته كانت في ثالوث حقول القانون والسياسة والديمقراطية لذلك نجد الدكتور عبد الله النعيم متقدم جدا مقارنة بالجمهوريين السودانيين لأنه قد وصل بفكر الأستاذ محمود محمد طه الى آخر الشوط وفتح له على الفكر الديمقراطي الليبرالي ومتقدم جدا على القانونيين السودانيين التقليديين.

وبالتالي يكون عبد الله النعيم في مقارباته و جهود الفكرية عالم إجتماع ستقّدر جهوده الفكرية الأجيال القادمة ويظهر تقدمه أي عبدالله النعيم في حديثة عن الديمقراطية الليبرالية الذي يجعله متقدم جدا على القانونيين السودانيين التقليديين وظهر كسادهم الفكري في الوثيقة التي فتحت للشراكة مع العسكر إذاما ما قارناها بفكر عبدالله النعيم وحديثه عن الفكر الليبرالي.

في ختام هذا المقال نقول أن إمكانية كسر الدائرة الشريرة في السودان لا تكون بغير إستلافنا من تراث الإنسانية وفكر مدرسة الحوليات الفرنسية ومن قبل قرن من الزمن أكّدت أي مدرسة الحوليات على أن دراسة التاريخ الإجتماعي والتاريخ الإقتصادي بمناهجها وليس بمنهج المؤرخ التقليدي السوداني هو ما يمكّننا من كسر الدائرة الشريرة لأن أحداث التاريخ على المدى الطويل تصبح علم إجتماع يفتح على فكرة الشرط الإنساني ويصبح فيه القرار والإختيار للنظام الليبرالي ممكن.

وبالتالي يصبح الفكر الليبرالي ليس نظام حكم فحسب بل فلسفة لتجسيد فكرة العيش المشترك وتصبح الديمقراطية والفكر الليبرالي بديلا عن الفكر الديني وخاصة أن مدرسة الحوليات في أفكارها لم تترك للدين والفكر الديني أي دور بنيوي في السياسة و طالإجتماع والإقتصاد بل يصبح الدين شأن فردي وأفق الرجاء بين الفرد وربه بعيدا عن تجار الدين من كل شاكلة واون. أما صراع الفرد مع مجتمعه فتحكمه معادلات سلوكية تفترض عقلانية وأخلاقية الفرد وعقلانيته أي الفرد تجعله يؤمن بحرية الأخريين وأنهم مساويين له في ظل فصل الدين عن الدولة.

قليل من التوضيح لمحنة النخب السودانية نضرب مثلا بعالم الإجتماع العراقي علي الوردي في رده على منتقدية في إستعجالهم لنقد فكره وذكروا أن على الوردي في كتاباته قد أصبح أقرب للمؤرخ من عالم الإجتماع وكان رده مثلما ما قالت به مدرسة الحوليات الفرنسية أي أن التاريخ وأحداثه على المدى الطويل يصبح علم إجتماع لذلك كان على الوردي مؤرخ غير تقليدي وعالم إجتماع لذلك أوصى بأن الليبرالية هي أسلم طريق لتحقيق التنمية الإقتصادية والإزدهار المادي في العالم العربي وقال لو فوّتت الفرصة ستحتاج المنطقة لعقود حتى تعود الفرصة من جديد وصدق علي الوردي وها هي عقود تمر والشعوب العربية تدفع بجهدها العرق والدم والدموع وما زالت تسير ببطء نحو التحول الديمقراطي الذي يلوح في أفق بعيد.

علي أي حال مدرسة الحوليات بداءت في عام 1929م و تزامنت مع ظهور الكساد الإقتصادي العظيم و طوّرت أفكارها ولكي تصل أفكارها لمراكز البحوث وتنتصر وتتسيّد على المشهد إحتاجت لعقود ولذلك نقول للنخب السودانية تلزمكم مراكز بحوث تبداء بطرح ما يساعد الشعوب على التغلب على النهضة العرجاء التي جاء بها رجال الدين في العالم العربي والإسلامي التقليدي وبعدها تعرف الشعوب طريق المستقبل الزاهر بفكر غير تقليدي وعبره يتم إستشراف المستقبل المزدهر ماديا للشعوب.

في الختام نقول أن كسر طوق الحلقة الشريرة والشب عنه لا يتم عبر الكتابات الموسمية التي تقوم بها النخب السودانية وهي متسلحة بعقلها التقليدي عقل ود البلد بل تحتاج لفكر مراكز بحوث يقودها مفكريين بمنهج عريض وواسع وكل منهم يمكنك وصفه بأنه عالم إجتماع ومؤرخ وإقتصادي وفيلسوف تسود فكره العقلانية والأخلاق وهدفه إعادة خلق مجتمع من أفراد كل فرد فيه يتصف بأنه ناخب رشيد ومستهلك رشيد في حيز معادلة الحرية والعدالة.

 

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. افيدنا افادكم الله !!
    سؤال يا استاذنا المستنير طاهر عمر .. ما الفرق بين الحوليات الفرنسية وحوليات القادرية وجماعات النوبة والفتة في السودان !!
    هل الحوليات الفرنسيين بدلاً عن النوبة والطار يعزف فيها الاكورديون والطرمبيطة …

    وبدلاً عن الفتة والبليلة هل يقدمون للفتاتية سليقة العجالي البورغيغون ام يخني “الجداد” الكوكوفان ؟؟ 🤣🤣

  2. في مقالك أستاذ طاهر عمر
    (إمكانية كسر الدائرة الشريرة في السودان لا تكون بغير إستلافنا من تراث الإنسانية وفكر مدرسة الحوليات )
    (وبالتالي يصبح الفكر الليبرالي ليس نظام حكم فحسب بل فلسفة لتجسيد فكرة العيش المشترك وتصبح الديمقراطية والفكر الليبرالي بديلا عن الفكر الديني .)

    العلم يفرض دراسة الواقع وابتكار واختراع نظام الحكم الملائم للبلاد. يعني على العكس تماما من تبني شرط الاستلاف والمحاكاة.
    في جنوب افريقيا أسست مؤسسة الابتكار من أجل الديمقراطية. حيث يقدمون انفسهم: (تأسست مؤسسة الابتكار من أجل الديمقراطية في عام 2022، وهي منظمة أفريقية غير ربحية تهدف إلى المساهمة في ظهور نماذج الديمقراطية المتجذرة في التاريخ والثقافات والأقاليم الأفريقية.)
    تجدها هنا:
    https://shorturl.at/ZciQt
    على كل هذا ما يفرضه العلم: الابتكار لا المحاكاة
    وعليه لا اعتقد ان الدكتور النعيم كان صائبا. بل ان د. منصور خالد الذي انتسب وختم جهوده ضمن مشروع المهمشين (السودان الحديث) وقع في نفس خطأ المحاكاة. وكأن حشود القبائل امام ناظري مشروعه لا تكشف تناقض مضموم الليبرالية الفردانية مع فلسفة مجتمعات تخضع الافراد لقبائلهم.
    هنا كلام د. منصور بصيغة الجزم في كتابه تكاثر الزعازع وتناقص الاوتاد.:(وحمدا لله. من قبل ومن بعد، أن آمنا جميعنا بفضيلة الديمقراطية الليبرالية.) ص. 308

    إضافة لما تفضلت به خاتمة مقالك:(في الختام نقول أن كسر طوق الحلقة الشريرة … تحتاج لفكر مراكز بحوث يقودها مفكرون بمنهج عريض وواسع)
    إضافة لهذا من المهم التفاعل مع اطروحات حولنا مثل مؤسسة الابتكار أعلاه. ومع الفيلسوف الكونغولي لويس امبالا امبابلا في كتابه الذي ابتكر فيه ديمقراطية سماها ديمقراطية الانسان. وجهود الاثيوبيين لابتكار ما يسمونه الديمقراطية الاثنية. التفاعل النقدي مع هذه الاطروحات، وغيرها في افريقيا بالذات، غاية في الأهمية.
    ولك الشكر والتحية.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..