أحراش السياسة في السودان: مرحلة انتقالية ممتدة تحت سلاح العسكر والميليشيات

مرت حتى الآن أربع سنوات على سقوط البشير، ومع ذلك فما تزال الثورة التي أسقطته عاجزة عن إقامة نظام سياسي جديد يحل محل نظامه، ويبدل حال الشعب السوداني من شقاء إلى رخاء، ومن انعدام الأمان إلى الاطمئنان. لقد ظل نجاح الثورة مرهونا بانحياز القوات المسلحة إلى الثوار، لكن هذا الانحياز لم يتحقق بلا مقابل. وكان المقابل هو توقيع وثيقة دستورية بين الجيش وقوى التغيير، تؤسس لقيام سلطة مزدوجة (مجلس سيادي يضم الجيش وقوى التغيير المدنية) لمدة تبلغ 42 شهرا، يتم في نهايتها نقل السلطة بالكامل إلى المدنيين، من خلال انتخابات نيابية. الآن، وبعد مرور أكثر من 48 شهرا على إسقاط البشير، ما يزال الجدل دائرا بشأن مرحلة الانتقال، في غيبة أي مؤشرات على قرب حدوث اتفاق حقيقي بين القوى السياسية والعسكرية على قواعد هذه المرحلة، والجدول الزمني اللازم لوضعها موضع التنفيذ.
ومن ثم فإن ما نشهده فعليا في السودان منذ سقوط البشير حتى الآن، هو «مرحلة انتقالية ممتدة» بلا نهاية تلوح في الأفق، تدور أحداثها في أحراش السياسة السودانية، تحت حراسة الجيش، وقوات الدعم السريع التي أنشأها البشير عام 2013 بقرار رسمي لمحاربة الحركات المسلحة، والتنظيمات المسلحة غير الحكومية، أو شبه الحكومية. ويبدو أن هذه التشكيلات العسكرية الرسمية وغير الرسمية، هي التي تملك الكلمة الأخيرة في إدارة العملية السياسية في السودان. ومع ذلك يبدو أن عددا من القوى السياسية في السودان يتوهم حتى الآن، رغم مرور أربع سنوات من التطورات العقيمة منذ سقوط البشير، أن حل القضايا العالقة بشأن مرحلة الانتقال تحتاج إلى أيام قليلة فقط!
في بيان الأحزاب السياسية الذي انعقد في مقر حزب الأمة السوداني في الخرطوم، الذي قرأته نائبة رئيس الحزب مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية، سادت لغة شديدة التفاؤل أن الاتفاق النهائي على الوثيقة السياسية توقعت أن يتم توقيعها يوم 6 من الشهر الحالي، وأن الحكومة الجديدة ستتألف يوم 11 من الشهر نفسه، تمهيدا لانتخابات تشريعية، تكون بداية قواعد إقامة الدولة المدنية الديمقراطية. هذا التفاؤل المفرط إما أنه يعكس قدرا كبيرا من السذاجة السياسية، أو أنه يعمل عن عمد إلى تشويه وعي الجماهير التي شاركت، وما تزال في الثورة، من أجل إقامة نظام ديمقراطي.
لقد نجحت الثورة في إسقاط البشير، هذا صحيح، لكنها فشلت حتى الآن في إقامة نظام جديد يحل محله، ويضمن تحقيق هدف الثورة. هذا الفشل الذي تشهده الثورة السودانية، ما هو إلا صورة من صور فشل ثورات «الربيع العربي» في بلدان مثل تونس واليمن وسوريا ولبنان وليبيا. وإذا كانت السياسة في السودان قد انتقلت من الاحتجاج السلمي بواسطة المدنيين في الشوارع، إلى الصراعات على النفوذ داخل أحراش الميليشيات المسلحة خلال المرحلة الانتقالية، فإنها تشترك أيضا في هذه الظاهرة مع ليبيا منذ إسقاط القذافي، واليمن منذ إسقاط علي عبدالله صالح.
حصر السلاح بيدي الدولة
لاشك في أن المرحلة الانتقالية في تاريخ أي دولة هي مرحلة شديدة الخطورة والحساسية، لأن التطورات فيها لا تتم على أرضية مستوية، وتفتح الباب لتطورات درامية على صعيد توزيع القوة المحلية بين الفرقاء المختلفين. ويبدو أن القوى المدنية لا تدرك حتى الآن مدى خطورة انتشار السلاح في ولايات السودان. كما يبدو أنها تتجاهل حقيقة أن الأحزاب والقوى السياسية التي تتمتع بوجود ظهير عسكري، ومنها حركات التمرد السابقة في كردفان ودارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، أصبحت تلعب دورا محوريا في عملية اتخاذ القرار السياسي في السودان، خصوصا بعد انضمام عدد من قياداتها إلى التشكيل الجديد لمجلس السيادة الانتقالي في السودان عام 2021 بعد الانقلاب العسكري بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الذي أطاح بحكومة عبد الله حمدوك، وأسقط الوثيقة الدستورية الأولى لعام 2019 وبدأ مشاورات من أجل التوصل إلى وثيقة سياسية جديدة، لم يتم الانتهاء منها حتى الآن.
القضية المركزية الحقيقية في التطور السياسي للسودان خلال مرحلة الانتقال، هي قضية حصر السلاح في يدي الدولة، الجيش والشرطة، وحرمان أي قوة أخرى، من حمل السلاح واستخدامه، حتى انتهاء العملية السياسية. وإذا كانت قوى الحرية والتغيير تعتقد أن من الممكن توقيع وثيقة سياسية بشأن مرحلة الانتقال، تتضمن نصا بخصوص الاستمرار في مناقشة القضايا السياسية العالقة، ومنها دمج قوات الدعم السريع في الجيش، ومن ثم تتأجل عمليا مسألة دمج قوات التدخل السريع في الجيش، فإن هذا الخيار يشتري مكسبا شكليا قصير الأجل، هو التوقيع على اتفاقية لا تملك مقومات الاستمرار، بالتنازل عن اعتبارات معنوية ومادية طويلة الأمد. الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في تجاوز خطيئة الوقوع في مصيدة انتشار السلاح خارج مؤسسات الدولة الرسمية هي مصر، وهو ما يجب أن يحسب لقيادتها الحالية في هذا السياق. ومع أن الخلاف، الشكلي والمفتعل في تقديري، بين البرهان وحميدتي، يجري اعتباره أخطر القضايا المعلقة، التي تعوق توقيع الاتفاق السياسي، فمن الضروري وضع هذا الخلاف ضمن إطاره السياسي الصحيح، على اعتبار أنه مجرد جزء من قضية أكبر، تتعلق أساسا بمبدأ حصر السلاح في يدي الدولة.
هذه هي في واقع الأمر القضية الغائبة في حوارات مرحلة الانتقال، وذلك على الرغم من أن عددا مهما من قيادات مجلس السيادة الانتقالي، الذين عينهم البرهان عام 2021 هم قيادات لتنظيمات عسكرية غير تابعة للدولة، كانت تقاتلها من قبل، مثل مالك عقار إير رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، والطاهر أبو بكر حجر رئيس تجمع قوى تحرير السودان، والهادي إدريس يحيى رئيس حركة تحرير السودان. كما يتمتع آخرون من قيادات الحركات المسلحة بنفوذ سياسي واسع النطاق مثل وزير المالية وعضو المجلس السيادي جبريل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة، ومَنّي أركو مناوي، حاكم دارفور، رئيس حركة جيش تحرير السودان، وهو شخصية تنظر بريبة شديدة إلى العملية السياسية. ولن تتحرر العملية السياسية من القيود التي تعرقلها، طالما بقيت تدور حول نفسها داخل أحراش السياسة السودانية، تحت رحمة القوى المسلحة غير الحكومية، والأحزاب السياسية التي تتمتع بوجود ظهير عسكري يساندها.
سياسة عملية قابلة للتنفيذ
إذا اتفقت القوى السياسية والعسكرية السودانية، على أنه لا جدوى من اتفاقيات المحاصصة السياسية الاقتصادية والتشريعية والإدارية مع وجود السلاح في أيدي قوى غير حكومية، فإن هذا يجب أن يقابله اتفاق جاد لإعادة توزيع مراكز الثقل السياسي والعسكري على أسس وطنية لا قبلية، وعلى أساس تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية. ولنجاح تحقيق ذلك فإنه من الضروري «تحديد المصلحة الوطنية» وذلك لتجنب الانزلاق في سياسات وإجراءات تتعارض معها، إذ أن تحديد المصلحة الوطنية يساعد على تحديد الخطوط الفاصلة بين المصلحة الوطنية والمصلحة الشخصية. ويتطلب تحديد المصلحة الوطنية في المرحلة الانتقالية قدرا من التنازلات والمواءمات، والحلول المؤقتة قصيرة الأجل، ترتبط بالقدرة العملية على دفع مسار العملية السياسية خارج الأحراش التي تحرسها الميليشيات العسكرية وقياداتها والجماعات المتربحة منها.
وإذا كان حصر السلاح بيدي الدولة هو الهدف الأولى للمرحلة الانتقالية، فإن هذا يتطلب إقرارا من القوى المدنية بأهمية دور الجيش الرسمي المحترف، ومن ثم الإقرار بضرورة تقديم بعض التنازلات، لتعزيز دور القوات المسلحة الرسمية في مواجهة الميليشيات والتنظيمات العسكرية غير الرسمية، سواء على مستوى السودان ككل، أو على مستوى الولايات. إن أي نص تحمله الوثيقة السياسية لمرحلة الانتقال، لن يكون أبدا نصا مثاليا، لأنه يحتاج لتقديم اعتبارات عملية على المبادئ المثالية. كما أنه يحتاج إلى تقديم عوامل الخصوصية المحلية، على القواعد العامة المستخلصة من التجارب الأخرى في العالم حولنا.
الإبقاء على روح الثورة
يتمتع السودان بقوة هائلة في المحافظة على روح الثورة وإرادة التغيبر، رغم كل الصعاب والعقبات وكثرة الإخفاقات، فإن السودانيين، رجالا ونساء، يظهرون كل يوم المزيد من التصميم على بلوغ هدف الثورة: إقامة الدولة المدنية الديمقراطية، والانتقال من التخلف والفقر إلى النمو والرخاء. روح الثورة والتصميم على التغيير هي السلاح الأقوى والأشد الذي يحارب به السودانيون من أجل الوصول إلى مستقبل أفضل. وفي مقابل هذه الروح، يواجه السودانيون تحديات ضخمة، تاريخية ومستحدثة، تجعل بلوغ هدف الثورة مكلفا جدا. وقد دفع عشرات الشباب الطامحين إلى مستقبل أفضل أرواحهم، في تحد لا يهتز أو يتقهقر ضد أربعة تحديات رئيسية في السنوات الأخيرة هي: غلبة نزعة العسكرة على السياسة، وغلبة روح القبلية على المواطنة، وغلبة المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وضعف الإرادة الدولية والإقليمية.
وما يزال المشهد السوداني حتى الآن بعيدا عن موقعة الحسم النهائية، وذلك على الرغم من التصريحات التي تنطلق من هنا أو هناك. بل إن المشهد اليوم يبدو أكثر تعقيدا. ولا نستطيع القول بأن الأمل يبتعد، لكننا مع ذلك نرى أن التضحيات المتوقعة ما تزال كبيرة، خصوصا وأن العسكريين يتزاحمون بشدة حول كراسي القيادة، وأنهم في كل الأحوال يضمنون بقاءهم حول هذه الكراسي بقوة السلاح، سواء في الولايات أو في العاصمة. لقد شهدت الأيام القليلة الماضية ارتفاع سقف التوقعات المتفائلة، إلى درجة أن موعد الاقتراب من ساعة الحسم كان يقاس بالأيام القليلة والساعات. هذا صحيح كما يبدو على السطح، لكن نظرة عميقة إلى ما تحت هذا السطح تخبرنا أن روح الثورة في السودان ما تزال في حاجة إلى المزيد من الوقود، وأن الطريق إلى الدولة الفيدرالية المدنية الديمقراطية ما يزال طويلا.
القدس العربي