وارتبك المسرح السوداني

عمر العمر
سبع سنوات انقضت على رحيل جون قرنق ولايزال موقعه على المسرح السياسي السوداني شاغراً. قرنق لم يكن فقط قائد حرب عصابات شرساً أو زعيم حركة تمرد محنكاً أو سياسياً ماهراً. بالإضافة إلى كل ذلك هو صاحب مشروع وطني متكامل الرؤى. الزعيم الجنوبي المقاتل خرج من الغابة إلى السهل والصحراء بمشروع «السودان الجديد» فاستقطب وبنى قطاع حركته في الشمال.
جون قرنق قدّ من كاريزما سياسية طاغية في قامة أبنوسية مديدة. هو صاحب ذهنية صافية نافذة وحجة منطقية غالبة. بشخصية تمزج بين الصرامة الحادة والتواضع الجم. فرض قرنق نفسه رقماً صعباً في المعادلة السياسية السودانية. بمهارة فائقة فرض حضوراً لا يمكن القفز عليه. من منطلق المكابرة فقط يمكن لشخصية سياسية سودانية زعم النجاة من بريق قرنق أو منطقه.
قلما يجمع سياسي بين جبروت الذات وعبقرية المرح على نحو لا يخدش صورة الزعيم القائد والسياسي المفكر. بهذا العتاد الشخصي النادر تمكن قرنق من جمع كل القيادات السياسية السودانية حوله. في غضون تجربة تجمع المعارضة أفلح في فرض نفسه المرجعية العليا. إبان مرحلة الشراكة قصيرة الأجل مع النظام لم يُخالف له رأي إذ امتثل الجميع لقناعاته.
عندما هبط الخرطوم تدافعت العاصمة السودانية في مشهد جماهيري ليس قبله أو بعده مثيل. تلك الحشود الشعبية كانت تعبر عن طموح زلزل المسلمات السودانية العتيقة. تلك لم تكن بداية التراجيديا غير المكتملة لكنها إحدى زراريها.
قرنق كان يشكل خطراً ضارياً على المسرح السياسي في السلم كما زمن الحرب. مشروعه الوطني وزعامته الطاغية منحاه مغناطيسية لها فعل السحر من أجل رسم وتخليق خارطة «السودان الجديد».
شخصية قرنق ساهمت مع مشروعه الوطني في تقسيم النخبة السياسية. منهم من وجد فيهما حلماً مشتهى لجهة انجاز عريض. منهم من رأى فيهما جسراً نحو مآربهم الذاتية.
هناك تياران وسط النخبة الشمالية والجنوبية اعترفا بفضل جون قرنق في إطفاء نار الحرب الأهلية. كلاهما تمنيا ـ كل من طرف خفي ـ نهاية قرنق مع حلول السلام.
كلاهما يريان في قرنق ومشروعه خطراً عليهما إذ لم يكن منهما من هو مهيأ للذهاب مع قرنق لجهة انجاز «السودان الجديد». مع وضع الحرب أثقالها رأى التيار الجنوبي الأفق مفتوحاً أمام الانفصال. مع توقيع اتفاق السلام تمنى التيار الشمالي نهاية قرنق بغية وضع خاتمة لمشروعه وطموحه. كلاهما خطر ماحق يدخلان الشمال في حالة ارتباك.
نهاية قرنق التراجيدية أسعدت التيارين الشمالي والجنوبي. بعد رحيل قرنق أرتبك المسرح السياسي السوداني اذ افتقد الجمهور الممثل النجم والمخرج المبدع والسيناريو الوطني الجاذب.
من الصعب إدانة طرف بارتكاب جريمة تصفية قرنق في حادث الطائرة اللغز لكن من المستحيل تبرئة هؤلاء وأولئك من الغبطة برحيل الرجل. ثمة ممثلون في أدوار ثانوية تألقوا في بريق قرنق ثم وجدوا أنفسهم بعد غيابه وراء الكواليس. المشهد برمته افتقد الإثارة. المسرح يعج بالمهرجين.
[email][email protected][/email] إتجاهات
قلت يوم رحيله ( لقد فقدنا الوحدة الى الأبد …لقد مضت الوحدة مع قرنق) !!
ان أنسى لا أنسى يوم رحيل قرنق 30/7/2005 ..
… ذات صبيحة غريبة في قرية حالمة وسط السودان .. نهضت فوجدت سبدرات على راديو أم درمان يتكلم بغلة غريبة.. الطائة .. قرنق.. الجثمان.. سقوط الطائرة… ثم جاء باقان اموم .. رنة حزينة .. حاول تطمين الناس.. لكن لباقان شراسة لا تفاقه حتى في لحظة عاصة وحزينة ومربكة مثل لحظة رحيل فرنق والاعلان عنها.. ثم جاء ياسر عرمان.. حزين للغاية .. لكن عرمان مثل باقان .. يملك قدراً من التماسك الثوري الممزوج بصمود عند المحنة ورثها بما من جينات كثيرة في شخصية السوداني .. يحاول عرمان دوماً أن يكون راعياً وبستانياً لهذا الحقل المتنوع الذي اسمه السودان ( فتجد فيه جينات الجعلي-الأنصاري-اليساري- الدينكاوي.. ابن الغرب- و شيء من حاجات أدروب وهكذا …
… قلت لمن حولي في تلك اللحظة المحتشدة بكل الحزن والأسى ( لقد ذهبت وحدة السودان مع قرنق .. وافتقدنا الوحدة الى الأبد ) !!!!