مقالات سياسية

حرب الخرطوم: الموت على ضفاف النّيلين (1-2)

طه داوود

في الساعات الأولى من صبيحة الخامس عشر من ابريل 2023م، والشعب السوداني يتهيـأ لوداع شهر رمضان المعظم واستقبال العيد السعيد، اندلعت الحرب بين الدعم السريع والجيش السوداني، حرب لا تشبه الحروب الأخرى التي ابتليت بها بعض دول الجوار الافريقي، وذلك من حيث الاستعداد والتوقيت وميدان المعركة وأهدافها. ما يجمع طرفي هذا النزاع الدامي هو زعم كلٍ منهما بأنه يسعى إلى تحقيق التحوّل الديمقراطي وإقامة الحكم المدني بالرغم من أن من يموتون تحت أنقاض المنازل بفعل القنابل والصواريخ هم المدنيون، ومن يقتلهم الرصاص الطائش أثناء الهروب هم المدنيون، ومن يُقتلون على الطرقات ويُذبحون على الهوية الإثنية، كما في مدينة الجنينة، هم المدنيون.

لا شك في أن بشاعة هذه الحرب لا يدركها إلا المتعايشون معها ممن انقطعت بهم السبل وحاصرتهم النيران داخل مدينة الخرطوم حيث البيوت المدمّرة والأزقـة المليئة بجثث القتلى، أما من كان بعيداً عنها جغرافياً فليس أمامه إلا التفاعل الإيجابي ومد يد العون والمساندة والدعـاء، خصوصاً وأن تقنيات التواصل قد ربطت الخارج بالداخل وألغت الجغرافيا والمسافات وفوارق التوقيت ببثها الحي والمباشر وعلى مدار الساعة لفظائع الحرب ودموية المشهـد في شوارع الخرطوم وزالنجي والأُبيِّض ونيالا والجنينة ،،الخ.

لإعطاء القارئ صورة عن الوضع الكارثي التي ترزح فيه عاصمة البلاد منذ منتصف ابريل 2023م، نقتبس بعض المعلومات من تقرير جريدة الشرق الأوسط (29/7/2023م) عن الحرب الحالية في السودان، فقد ذكر التقرير أن هناك أكثر من 3 آلاف جثة تقبع في 3 من مشارح العاصمة السودانية الخرطوم، دون أن تتوفر معلومات كافية عن أوضاع تلك المشارح منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل الماضي. ويضيف التقرير أن هذه الجثامين تعود لمدنيين قُتلوا على أيدي قوات عسكرية أثناء فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش في 3 يونيو (حزيران) 2019م، بالإضافة إلى ضحايا موجة الاحتجاجات التي أعقبت انقلاب 25 أكتوبر 2021م، وأخيراً بعض ضحايا الحرب الحالية التي بدأت في منتصف أبريل الماضي.

نعم، تتابعت المآسي على الشعب الذي فجّر ثورته العظيمة في ديسمبر 2018م في وجه حكم الإنقاذ الذي تهاوى تحت أقـدام الثوار الذين لم ترهبهم آلة القتل ولم يزدهم سقوط الشهداء أمام بوابات القيادة العامة للجيش وفي ردهات المستشفيات وفي بيوت الأشباح والزنازين، لم تزدهم تلك الدماء الزكية إلاّ رغبةً وإصراراً على إزالة الظلم والطغيان، فتحقق مرادهم ومراد ضحايا النظام البائد في مناطق السودان المختلفة، وفي المقدمة قاطني معسكرات البؤس في مناطق دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.

تحقق النصر العظيم وسقط نظام الإنقاذ في ابريل 2019م، سقط النظام ولكن لم تسقط المؤامرات والدسائس، فجاءت حكومة الفترة الانتقالية كفريسة تحيط بها الذئاب من كل جانب، فاتّسم أداؤها بالهزال وتلبية رغبات الانتهازيين في المجلس العسكري الانتقالي وفي تحالف الحرية والتغيير (قحت) ولو كان ذلك على حساب الوثيقة الدستورية وعلى حساب الثورة وشعاراتها وشهدائهـا، لينتهي المطاف بتلك الحكومة الهزيلة لقمة سائغة في يدي المجلس العسكري الانتقالي بعد إذاعة البيان الانقلابي لقائد الجيش عبدالفتاح البرهان صبيحة 25 أكتوبر 2021م لتواصل الأفواج الأمنية قتلها للمحتجين العزل بالرصاص في طرقات العاصمة وأمام مرأي الناس وأمام عدسات المصوّرين لتستقبل مشارح العاصمة المزيد من جثث الأبرياء بما يفوق طاقتها الاستيعابية، فأصبحت تلك الجثث طعاماً للفئران في هذا الزمن الرديء الذي أدخَلَنا فيه جنرالات الجيش وقادة مليشيا الدعم السريع.

فقد أكد مدير هيئة الطب العدلي بالخرطوم د. هشام زين العابدين أن الفئران تدخل المشارح وتتغذى على الجثامين، دون وجود وسائل مكافحة فعالة، ما اضطر الهيئة لاستخدام مبيدات الحشرات للقضاء على القوارض والحشرات، مضيفاً أنه ومنذ ما قبل الحرب تحلّلت الجثامين في المشارح، وتحولت إلى أكوام لحم، ولا يوجد جثمان مكتمل في المشارح (الشرق الأوسط 29/7/2023م). أرأيتم كيف يُهان الناس في السودان أحياءً وأمواتاً! وكل جريرتهم أنهم طالبوا العسكر بتسليم السلطة للمدنيين والعودة إلى ثكناتهم والقيام بمهامهم الأساسية في حماية التراب الوطني وبسط الأمن وحماية النظام الدستوري!.

وإذا نظرنا إلى الخلف وفحصنا تاريخ السودان الحديث، سنجد أمثلة عديدة لمجازر مماثلة وربما أكثر بشاعة سلبت من الناس البسمة والأمل والممتلكات والأرواح، ومن ذلك ما عُرف بحملات الدفتردار الانتقامية الذي كان والياً على نواحي كردفان بعد غزو واحتلال السودان في 1821م من قِبل جيش محمد علي باشا حاكم مصر في ذلك الوقت.

فبعد مقتل قائد حملة غزو السودان إسماعيل باشا على يد المك نمر في شندي عام 1822م، ووصول النبأ إلى محمد بك الدفتردار في كردفان، بادر من فوره بالزحف على شندي للثأر والتنكيل بمن اشتركوا في الواقعة، وقد خرّب شندي، وأسرف في التنكيل والقسوة بما جعله مضرب الامثال في الميل إلى القتل وسفك الدماء، وقتل آلافاً من الناس ليثأر لصهره، وسبَى من الصبيان والنساء آلافاً أخرى أرسلهم إلى القاهرة، وتعقّب المك نمر لكنه لم يدركه لفراره إلى حدود الحبشة، ثم اتجه الدفتردار جنوباً ليُعمِل السيف في بلاد الجعليين، وعندما كان قبالة جزيرة “توتي” عَبَر إليها وقتل ونشر الذعر والرعب بين الأهالي، ومَن أدركه منهم قضى عليه، حتى وصل ”ود مدني”، حيث راح ضحية هذه المجازر نحو 30,000 من السودانيين (إبراهيم فوزي 1309ه). وهذه القسوة التي اشتُهر بها الدفتردار لم ينج منها حتى الأحياء من المواطنين، حيث كان يعتدي على المناوئين لحكمه الاستبدادي ويأمر بقطع آذانهم والحصول على جائزة، كما أمر بخلع أسنان البعض الآخر (القدال 2018م).

أيضاً نجد أن الإسراف في سفك الدماء كان من سِمات الثورة المهدية في كل مراحل صعودها في غرب السودان وصولاً إلى فتح الخرطوم في يناير 1885م، حيث قُتل الآلاف من سكان المدينة المنكوبة، وصودرت الممتلكات وهُدمت المنازل، وقد بلغ عدد القتلى يوم فتح الخرطوم أربعة وعشرون ألف (إبراهيم فوزي 1309هـ).

بالعودة إلى الحرب الحالية، وللوقوف على آثارها المدمّرة على الفرد والمجتمع ومستقبل الدولة السودانية، نقرأ في تقارير الأمم المتحدة التي تفيد بأن ما يزيد عن 3 ملايين شخص قد نزحوا من أماكن إقامتهم (الأغلبية منهم من العاصمة الخرطوم) بسبب النزاع الدموي ما بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المستمر منذ 15 ابريل 2023م، بجانب مئات الألوف من اللاجئين إلى تشاد من الرجال والنساء والأطفال الذين فرّوا من مدينة الجنينة التي اجتاحتها قوات الدعم السريع وارتكبت في حق الأهالي أبشع المجازر، فامتلأت الشوارع بالجثث التي لم تجد من يواريها الثرى، وقُدرت أعداد القتلى بمدينة الجنينة وما جاورها من مناطق غرب دارفور بما يزيد عن الألف قتيل.

التحية،،

14 أغسطس 2023م

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..