ود الجبل… جرّاح الكُتب

ممتلئاً بالقناعة، يقرر محمد يوسف، الشهير بـ (ود الجبل) بأنّ ما كسبه من مصاحبة الكتب، والإتجار فيها، لسبع وثلاثين سنة، يُعادل شهادات أكاديمية كثيرة يتباهى بها البعض، ويضعونها بفخرٍ زائد أمام أسمائهم.. ويضيف بأنّ علاقته مع الكتاب غريبة، و(قدريّة)، بدأتْ منذ طفولته، ويحكي ضاحكاً قصته عندما أكل صفحتين من تفسير الجلالين، نسيه والده على طاولةٍ قريبة.
ثم يواصل ود الجبل، الذي ينتسب إلى الشيخ الأغبش (أبْ مسوحاً مِيْ)، غرب الشيخ الياقوتْ، فيقول بإنّ الكتاب كان سبباً في مفارقته الإبتدائية في سنتها السادسة، إذ يأتي من (جبل الأولياء) جنوب الخرطوم، ليقضي نهاره حتى ينقضي، وهو صبي، في زقاقات الوراقين، على حوائط مسجد الخرطوم الكبير، أو بأم درمان.. يُقلّب هذا الكتاب، ويُطالع صفحاتٍ من كتابٍ آخر، يقول باسماً، بأنّه وبهذه الطريقة، تعرّف إلى أغلب الوراقين، وصادقهم، واستطاع أنْ يُكمل قراءة العديد من الكتب، والتي لمْ يكن يملك ثمنها وهو صغير، خالي الجيب، إلا من (حق الفطور)!!
ينفق (ود الجبل) نهاره كله، منذ (37) سنة، في بيع الكتب وشرائها، حيث تتراص كتبه على أمتار، بجوار ميدان كمبوني براون، بالخرطوم شرق، وفي صيانة ما تلف من الكتب والمراجع التي صار خبيراً في إعادتها إلى القراءة.
عندما غادر مقاعد التعليم النظامي، بسبب (قسوة) بعض المعلمين ?كما قال- إنهمك (ود الجبل) في قراءة الكتب، وتعليم نفسه بنفسه، فهو يُصنّف نفسه، يعرف في التاريخ، والاجتماع، وعلم النفس، والرواية والأدب.. وله الآن عدد من المخطوطات التي لمْ ترَ نور الطباعة والنشر، بالرغم من عمله في بيع الكتب، وصيانتها وتجليدها.
على طاولته الصغيرة، يضع (ود الجبل)، منشاراً صغيراً، وغراء، وبكرة من خيط (العَصبْ)، ومقص، وموساةٍ حادةٍ.. وهي جميعها أدواته التي يُعالج بها اهتراءات الكتب، وتمزقات صفحاتها وأغلفتها.
على جانبي طاولة ود الجبل الصغيرة والقصيرة، العديد من الأوراق الصغيرة الملصقة، بغير نظام.. استطعت قراءة بعضها: (اليهود في السودان)، (سالي فو حمر)، (الحركة النسوية السودانية)، (الجبهة الوطنية، خفايا وأسرار)، وأسفل كل واحدة منها رقم هاتف.. تبيّن لي فيما بعد، بأنّها طلبيات لبعض زبائن (ود الجبل)، لكتبٍ بحثوا عنها ولم يجدوها، ثم أوصوه بالبحث عنها، ويضع ود الجبل هذه الأوراق الصغيرة ملصّقةً أمامه للتذكير، إذا وجدها.
أسلمته كتابي (الخرطوم)، لمايكل أشر، الذي تشتت صفحاته، وانفكّ غلافه، ولم يعد في الإمكان التعامل مع صفحاته التي لم يستطع جمعها لاصق.. بهدوء أعملتْ أصابعه في الغلاف، ورتبت الصفحات، باهتمامٍ عالٍ، ثم كشط بقاطعٍ حادٍ بقايا الغراء القديم، حتى آخره.. وبالمنشار حفر عدداً من المجاري في الكتاب، أدخل فيها خيط العصب، وحزمها به. ثم مرر عليها علبة الغراء، وأعاد الغلاف من جديد.
العملية استغرقتْ أكثر من نصف ساعة، وفي كلها كان ود الجبل كامل التركيز في الكتاب.. يُجيب على سؤالٍ فضولي من أسئلتي المتلاحقة، ولا يهتم بأربعةٍ أو خمسة، كان أكثر ما يُعكّر اهتمامه، كُمْ جلبابه الأخضر الواسع، وهو ينسدل في كل مرةٍ على الكتاب، فيرفعه أعلى، بتقطيبةٍ على جبينه!!
من الأسئلة التي أجاب عنها علاقته بالجلباب الأخضر، الذي ورثه عن أجداده (الغُبش)، وراثة أكثر من كونها انتماء لطريقةٍ صوفيةٍ بعينها.. ثم علاقته بصيانة الكتاب، وإجراء عمليات (جراحية) له، والتي بدأت منذ وقتٍ باكر في صباه، حيث كانت ضمن هواياته، في أوقات فراغه، تصليح الكتب الممزقة في مكتبة والده، ومكتبة أصدقائه، والمدرسة فيما بعد.
لكن البداية الحقيقية يوم أنْ عهد إليه القانوني، د. محمد الطيب، صيانة العديد من المراجع القانونية بالسلطة القضائية، والتي نجح في ترميمها، وصيانتها.. أما الحادثة الثانية هي صيانته لمكتبة المحامي المعروف، عبد الوهاب بوب. ومكتبة الطيب البشير، المستشار القانوني بدبي.
ويومياً يُنفق ود الجبل نهارات الخرطوم، في بيع الكتب، وصيانتها، مستعيناً على ذلك بابتسامته الواسعة، وقفشاته التي يُطلقها كل مرةٍ في أذن زملائه الوراقين وزبائنه.

اخر لحظة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..