التصنيف والحدس

الفلاسفة يخلقون أزمة من العدم ، ويتجادلوا حولها ، والحياة تسير بدونهم في أحيان كثيرة . التمييز بين أصناف العمل الأدبي نال قسطه من الجدل عند تودروف ودولوز وحتى فوكو ، ولكن بغض النظر عن الآراء الفوضوية التي ترفض التصنيف الأرسطي ، فإن هذا التصنيف هو الفاعل والمشتغل حتى الآن ورغم ما يصمونه بالغموض من حيث العناصر إلا أننا نستعير جملة من الفقه القانوني البريطاني وهي أنه (ما نعرفه حين نراه) وليس بالضرورة أن نتلمسه . فأنا أعرف أن عملا ما يمكن تصنيفه في خانة الشعر لتضمنه عناصر -رغم شفافيتها- إلا أنها تمنحنا فينومنولوجيا الحدس اللازم بالتصنيف ، هذا وإلا كنا أمام استخدام اعتباطي ؛ يتداخل فيه الشعر مع القصة والرواية والفلسفة بل وحتى الفيزياء ، فلا بد مبدئيا من التصنيف براغماتيا ﻷننا في حاجة له ، على الأقل للنهج الدراسي والتركيز القرائي ، وحتى للتقييم النقدي بل وللمتعة أيضا ، وانتهاء بتمييز الاهتمامات الفردية . حينها نستطيع أن نقول لمن يدعي بأن عمله رواية بأنه ليس كذلك ومن يدعي أن عمله شعر ليس كذلك أو هو كذلك بالفعل ، إننا لا نعتمد فقط على عناصر مختلف حولها بل حدس وتوقعات مسبقة مكتسبة وراسخة في العقل ابستمولوجيا ، فنستطيع أن نميز فالإنسان ليس حيوانا مقاد الى حيث يشاء له ، بل له تقييماته وهذه فضيلة للانسان أنه يقيم (بتشديد الياء الوسطى) المفاهيم والعناصر والموضوعات ، فنحن لسنا في ذاتية مغرقة في الانفصال عن الموضوعات بل نحن في اندماج معها رغم الجدل الديكارتي حول هذه النقطة . إننا نثق في الحدس ، ولا نتساءل كثيرا عن عناصر أي عمل او أركان يترتب على توافرها تطبيع العمل وتنميطه ، يكفينا أن نلقي نظرة عليه لنضعه في الرف المخصص له ، والعكس من ذلك يعني أن عقل الإنسان عقل فوضوي ومجنون يختلط فيه الحابل بالنابل والأدبي بالعلمي والمهني بالفني …الخ . أين يوقعنا هذا؟؟ يوقعنا في تيه وضياع شديد وتخبط لا نهاية له .
أن أضع بلزاك في خانة نيرودا فهذا عبث وأن أقيم مقارنة بين كونديرا وفوكو فهذا قمة الخلط والخطل ، وأن أمزج بين أعمال صمويل بيكيت وهانز ريشنباخ ألا يعني أنني وصلت الى مرحلة من الجنون لا ارتداد لها. وهذا ليس سؤالا با تقريرا بحقيقة أننا نسير بتصنيفاتنا بغض النظر عما إذا كانت هذه التصنيفات مكتسبة تاريخيا أم أنها جزء من مكوننا العقلي ، أم أنها خليط بين هذا وذاك.
إننا نقوم بعملية التصنيف الأرسطي في كافة أنشطتنا ، حينما نشرب الماء فإننا نصنف وحينما نعرج الى مكان فنحن نصنف ، وعندما نشاهد فإننا نصنف وعندما نشعر فنحن نصنف ، أي أن كل حواسنا هي تصنيفية في المقام الأول ولذلك فإن التصنيف يرتبنا وينظمنا ، إننا نقوم بعملية التصنيف بدون صعوبات فلسفية أو تجذير أو تأصيل أو تمييز لعناصر بشكل مقصود ، إن كل ما سبق ينهض به الحدس بشكل أوتوماتيكي وبكل يسر وسهولة ، وعلى هذا ؛ فإن التصنيف الكتابي ليس خارجا عن هذا الإطار بل هو جزء مهم ولا غنى عنه ﻻستمرارنا بهويات معلومة.
22مايو 2016
[email][email protected][/email]