كل «هلال» وأنتم بألف خير 154 سنة على مولد العبقري جورجي زيدان

بروين حبيب
مرّت ذكرى مولد الكاتب والإعلامي والمؤرّخ اللبناني جورجي زيدان، من دون أي لفتة من المثقفين العرب، مرّت وسط صخب الأحداث اليومية التي تنوّعت بين ذبح هنا وتفجير هناك واغتيالات بالجملة امتدت من عاصمة ألف ليلة وليلة بغداد إلى عاصمة الجن والملائكة.
نسيان مؤلم لمؤسس مجلة «الهلال» الثقافية التي تعتبر أكبر صرح إعلامي ثقافي تجاوز القرن سنا، وقارب القرن ونصف القرن? ومع هذا لم نقم بأي مبادرة لتهنئة من احتضنها وبقيت صامدة أمام رياح الرّداءة التي عصفت بكل ما هو أدبي وثقافي في العالم العربي.
مرت ذكرى مولد زيدان إذن من دون أن تعرف الأجيال الجديدة من هو؟ من أين أتى؟ وماذا كان يملك؟ ليؤسس هلاله الذي ظل مع السنوات يهلُّ علينا ويصبح بدرا، ينير عتمات المشهد الثقافي في ربوع عالمنا، ويكرر دورة إطلالته كما هلال الطبيعة تماما?
فهل ما حدث نكران لأهل الثقافة لدوره؟
أم هو فقدان مصر لدور الريادة الثقافية ما حوّل «الهلال» إلى مجلة محلية، لا إشعاعات لها كما في أوائل القرن الماضي حين صدرت؟
لكن ألا يحق لنا أن نسأل أن حلم الفتى الفقير جورجي زيدان نما في ظروف صعبة، بحيث كان هو المحرر الوحيد للمجلة؟ كان هو فريق العمل، وفريق إطلاقه، قبل أن يساعده ابنه إيميل في ذلك.
اليوم في عصر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تقض مضجعنا وتلاحقنا حتى إلى أسرتنا ونحن نائمون، يعجز المثقف عن القيام بلفتة طيبة تجاه «الهلال».
ما يحز في نفسي هو تفاعل هذا المثقف مع كل ما يحدث في الغرب، وقد غير مثقفون كثر بروفايلاتهم على فيسبوك إلى «أنا تشارلي».. ونزل بعضهم في مظاهرات، وسال حبر كثير لمساندة صحافيي الجريدة الساخرة، ولكن لا أحد كتب تعاطفا مع مجلة بلغت من العمر قرنا وثلاثا وعشرين سنة?أليس هذا مخجلا؟
قد يقول البعض إنني أهذي وإن التعاطف مع ضحايا « تشارلي إيبدو» تعاطف إنساني، ضد العنف، وأنا بطبعي مسالمة وقلت كثيرا في مواضع غير هذه، إنني ضد أي عنف تجاه الإنسان، وضد أي عنف يشوه ديننا، وإن ما قام به المتطرفون ليس منا، لكن هذا العنف الذي نمارسه ضد أنفسنا ماذا نسميه؟
حين نقصي ذكرى مهمة كذكرى بلوغ «الهلال» هذا الرقم الخرافي في مشهدنا الثقافي ماذا نسميه؟ نحن الذين نتباكى يوميا على أن أي مشروع ثقافي لا يستمر، ولا يمكنه أن يعيش أكثر من سنة أو سنتين? لماذا نهمّش عيد مولد «الهلال» وذكرى مولد جورجي زيدان 154؟
هل لأننا أمم تحتفي بموتاها؟ وتنتظر مثقفيها أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة لتأبينهم بجنائز فخمة، ووضع أوسمة من قماش على توابيتهم؟ وبالمقابل ثقافة الاحتفاء بالولادات وبالحياة نفتقدها؟
أم أنه الإهمال وكفى..! إهمال لكل منجزاتنا وكل مبدعينا، وحتى لقدراتنا الشخصية على التغيير؟
على الصفحة الرسمية لمجلة «الهلال» على فيسبوك، نجد أكثر من أربعة آلاف تابع لها وهذا عدد قليل، وعلى غلاف عدد يناير/ كانون الثاني، تبدو الصورة القاتمة للثورات العربية، وإن كانت الصورة تختصر أربع سنوات من الثورة والثورة المضادة في مصر.
12 لايك، و4 أشخاص تقاسموا الصورة، وثلاث تهاني لمناسبة العام الجديد?! بين هذه الأسماء لا نجد اسما لمثقف معروف أو كاتب من كتابنا العرب الذين تعج بهم المعمورة بحكم أن مئات منهم يعيشون في منافي العواصم الغربية..
المجلة نفسها احتفلت في عدد يونيو/حزيران الماضي بمئوية رحيل مؤسسها، وعلى رأي المصريين «تعيش وتفتكر» لكن أيها أكثر استمرارية حين نحتفل بعيد مولد شخص؟ أو بذكرى وفاته؟ أي التاريخين يشجع على الفرح والإقبال على الحياة؟ أي التاريخين رمز للبقاء؟
نعم لنقل جميعا لـ»الهلال» كل عام وأنتم بخير..لكن أيضا لنشعل الشمعة الـ123 لها ونغني لها «هابي بيرثداي» ونتفاءل بهذا الرقم الكبير الذي يملأ قلوبنا بالأمل على أن الثقافة بخير..
نذكر أن استمرارية المجلات والجرائد الورقية اليوم مرتبطة بمدى كرم الممول، وقد يكون هناك ممول، وقد لا يكون، فتتخبط المجلة أو الجريدة في مشاكل مادية وتنتهي، كما انتهت عناوين كثيرة ولدت ونسيها جمهور القراء?
وهناك مجلات حظيت بتمويل الدول الحاضنة لها مثل مجلة «نزوى» الراقية التي بلغت من العمر 21 سنة، أي أنها في قمة ربيع عمرها، وممتاز أنها تعتبر ملكة المجلات الثقافية اليوم، رغم أنها تصدر كل ستة أشهر وهذا لا يكفي?
مجلة «شؤون أدبية» الإماراتية عمرها 29 سنة وهي تصدر عن اتحاد كتاب الإمارات، ممتازة أيضا? وهناك عناوين أخرى? لنضمن استمراريتها يجب أن نتحد كمثقفين ونعطي دعما معنويا لها.
هذه المجلات، وغيرها لا تحتاج منا سوى للكلمات، وهذا ما نتقنه نحن الكتاب والشعراء?
وإن كنت أكتب اليوم لتهنئة «الهلال»، ومن خلالها كل العناوين الثقافية التي تصر على البقاء في عالم يعج بأنواع من الرداءات بالصوت والصورة، فإنني أطلق «صرخة» عبر زاويتي هذه لكل المثقفين أن يدعموا منابرهم بالكلمة? فقوتنا تكمن في كلمتنا، ولنبين ذلك للعالم أجمع.
فخر لنا اليوم أن نضيء احتفالنا ليس بشمعة بل بهلال، نراقب بهاءه وهو يكبر ويتحوّل إلى بدر، ويزين عقولنا بما تجود به الأقلام العربية من الخليج إلى المحيط.
يقول أحد قرائي إنني أقفز دوما من موضوع إلى موضوع ولا أجيب على أسئلة من يعلقون على مقالاتي، وفي الحقيقة إن تأملت يا صديقي ما أكتب فهو مسلسل لفكرة ثقافية كبيرة تدور في رأسي، وإن بقيت ثابتة في نقطة واحدة فمن لديه القدرة على الاستماع إليّ والاستمرار في قراءتي.
لقد استمرت «الهلال» لأكثر من قرن بتنوع أبوابها، ورؤساء تحريرها، وتنوع أقلامها، وتنوع موضوعاتها، وتنوع سجالاتها ، وهي اليوم تملأ موسوعة تكشف وضع الثقافة في مصر والعالم العربي، فوحدها الثقافة تمثل الحقيقة التي يهملها الإعلام المسيس.
ووحدها الثقافة أيضا مقياس جيد لمستوى شعوبنا، متى كنا في قمة الهرم، ومتى تزحزحنا إلى قاعدته، ومتى سقطنا في دهاليزه وضعنا في متاهته ولم نعد نعرف كيف نخرج.
عني شخصيا لو أن برنامجي لا يزال مستمرا، لقدمت تقريرا كاملا عن المجلة، عن مقرها، عن الشارع الذي تصدر منه، عن آراء الناس حوله، عن أقلامها، عن حياتهم اليومية، وعن حياة جورجي زيدان، هذا القروي الفقير الذي حمل أحلامه إلى القاهرة أم الدنيا، وقهر الفقر، وقهر الجهل، وأصبح رمزا من رموز ثقافتنا وأدبنا?
ولا يزال الهلال الذي ينبعث منه بريق أمل لتأخذ الثقافة مكانا بحجم بدر في مجتمعنا المثقل بالحروب ?
أيها الأصدقاء رجاء لا تتركوا الهلال وحيدا?!
وللحديث بقية إن شاء الله .
٭ اعلامية وشاعرة بحرينية
بروين حبيب
القدس العربي