مقالات متنوعة

استقيل يا ثقيل كرهنا الحكومة وسئمنا الرئيس

ديسمبريات (5)

عبد الجبار عبد الله
عام بعد عام
كلام فى كلام
كرهنا النظام
وأحاجى السلام
وقدر اللّى ضاع
من حقوق العوام
خيرات بلدنا وترابو النفيس…
كرهنا الحكومة وسئمنا الرئيس….
عشان الحقارة
وسوء اﻻدارة
وحكم البصارة
وقدر الفقارى
وكل المغلّف باسم الحضارة

كانت أبيات الشاعر هاشم صديق هذه -من قصيدته ” كرهنا الحكومة وسئمنا الرئيس” في عام 2016 استشرافا شعريا لشعارات الموكب الثالث من مواكب الانتفاضة الذي ازدانت به شوارع الخرطوم بالتزامن مع موكبي مدينة ود مدني وعطبرة إلى جانب عدد من المظاهرات النهارية والليلية التي انتظمت أحياء العاصمة المثلثة وأشعلت سماءها بالهتاف والزغاريد، ولا سيما مظاهرات بُري التي شاركت فيها مكبرات مآذن المساجد بإطلاق النداء “حي على الفلاح..حي على الثورة”. ففي موكب اليوم 6 يناير الذي دعا له تجمع المهنيين السودانيين، وقبله في مختلف مواقع السوشيال ميديا علا الهتاف:

تكسر حنكك

تكسر سنّك

ما عايزنك ما عايزنك

#تسقط_بس

تناغما وتآزرا مع شعارات: حكومة الكوز تسقط بس، حكومة الجوع تسقط بس، حكومة الذل تسقط بس، سقطت سقطت يا كيزان، وسقطت سقطت على عثمان …إلى آخره.

وقد شكّلت هذه الشعارات المزاج الثوري الشعبي العام، المتجاوز للأسباب المباشرة لقدح جذوة الاحتجاج العفوي على الفقر والجوع وذل صفوف الخبز والوقود والغاز وعذابات البنوك وماكينات الصراف الآلي.

وما أكثر القصائد الشعرية والأغاني والنكات والطرائف وجلسات الأنس الشعبية التي تعكس هذا المزاج العام الذي كره الحكومة وسئم الرئيس حقا. فيديوهات لا تحصى لأطفال تحوّل فيها شعار “تسقط بس” إلى لعبة ونشاط يومي مفضّل.

ومنذ 19 ديسمبر وحتى اليوم لم تخمد جذوة الانتفاضة الشعبية، بل ازداد نطاقها اتساعا وتنضم إليها يوما بعد الآخر أقسام وفئات أوسع من الجماهير والمهنيين، كما شهدنا اليوم في الوقفة الاحتجاجية لأساتذة جامعة الخرطوم واعتقال عدد منهم ومعاملتهم بطريقة مذلة مهينة. وبفضلها تنفّس الناس دعاش الحرية وهمبريبها، وانتشرت صور علم السودان ورددت الحناجر نشيده وأغانيه، واكتسبت الجماهير ثقة لا نكوص عنها في قدرتها على تحقيق النصر وهزيمة نظام الإنقاذ بظلاميته الطالبانية الداعشية الذميمة. وبفضل هذه الانتفاضة أيضا تصدَّر السودان عناوين معظم الصحف والفضائيات التلفزيونية ونشرات الإذاعة العربية والإفريقية والعالمية.

دا كله والريّس عامل داقي طناش وما هاميه!

ومثلما عجز دعاة الإسلام السياسي البغيض من أهل الإنقاذ، وفشلت تجربة حكمهم على مدى 30 عاما لأسباب عدة، من أهمها غربتهم الروحية عن الشعب وعجزهم عن فهم مزاجه العام، فهاهم يكررون الفشل نفسه مرة أخرى بتجاهلهم للمزاج الشعبي واستخفافهم به. وبذلك فإنهم ماضون حثيثا نحو سقوطهم العمودي إلى حضيض التاريخ.

تكتيات قوى الثورة المضادة

بالرغم من صحة الشعار “سقطت سقطت يا كيزان” وأن حكومة الإنقاذ لم تعد سوى جيفة ملقاة على قارعة طريق السودان الحديث بوعيه وتطلعاته ومفاهيمه الجديدة، يبدو أن مجرد فكرة زوال نظامهم غير واردة في حساباتهم مطلقا. ولذلك، فإنهم متمسكون بنظام لم تعد له من أدوات الحكم سوى البطش والقمع. ولم تعد سوى مسألة وقت فحسب، لإزالة هذه الجيفة وإلقائها في مزبلة التاريخ حيث مكانها الطبيعي. يصح شعار “سقطت سقطت يا كيزان” نظريا وعمليا بتوفر كل الشروط اللازمة لنجاح الانتفاضة الشعبية بعاملها الموضوعي: عجز النظام الحاكم عن الحكم وعدم استطاعة الجماهير العيش في ظله، مقترنا ومعززا بعاملها الذاتي من حيث قدرة الجماهير واستعدادها لمنازلة النظام الحاكم وهزيمته. وهي إرادة ثبت عمليا في كل المواكب والمظاهرات المستمرة منذ 19 ديسمبر أنها راكزة على الشعار الشعبي الداوي المزلزل “الطلقة ما بتكتل…بكتل سكات الزول”. فلا الرصاص ولا البنادق ولا السياط بتهز يقين.. ولا سجون العتمة بتودّر طريق الكادحين. وهذا ما بدا واضحا حتى لعسس النظام نفسه وباغت الطغاة الذين كانوا يعتقدون أن من شأن تكرار سيناريو قتل عدد من المتظاهرين أن يوقف المد الثوري لانتفاضة ديسمبر، مثلما فعلوا في هبة سبتمبر عام 2015. ولكن سرعان ما أدرك النظام أن الأمر مختلف تماما هذه المرة، وأن الشارع مصمم على المضي مع الطغمة الجائرة المستبدة إلى آخر الشوط: نلاقي النور أو نمشي بحور.

لقد أصيب الإنقاذيون على حين غِرّة بهذا التحول الجديد في مسار الأحدث، وهذه الهزة المفاجئة التي زلزلت أركان عرش طالما حسبوا وهما وصلفا واستبدا أنه دام لهم وحدهم واستحال إلى ماركة سياسية مسجلة باسم الحركة الإسلامية ولا أحد سواها.

ففي محضر وقائع ذلك الاجتماع المسرّب بين عمر البشير وقادة الجيش في أول يوليو 2014 جاء على لسان الفريق الركن بحري دليل الضو محمد ما يلي:

نرفض تشكيل حكومة انتقالية عبر مؤتمر دستوري. وتاني ما تقدموا تنازلات للحوار زي البنادي بيه الصادق المهدي، ترهن القوات المسلحة لأحزاب وحركات عميلة.

ولن يحكم السودان غير أبناء الحركة الإسلامية بالقوات المسلحة. والآن كل القوات المسلحة حركة إسلامية من رئيس الأركان إلى آخر ضابط. وهم قايلين دي القوات المسلحة الزمان؟ الآن كل قواتنا كوادر سياسية مدربة (ص 24 من محضر الاجتماع- صحيفة الراكوبة)

وخلص ذلك الاجتماع إلى القرارات التالية

قيام الانتخابات في موعدها.
تفويض القائد العام ورئيس الجمهورية للترشٌّح للرئاسة، وفي حال عدم ترشٌّحه يختار مرشّح من القوات المسلحة.
الحفاظ على هوية الدولة الإسلامية.
عدم قيام أي مؤتمر دستوري أو تشكيل أي حكومة انتقالية.
هذه هي الركائز النظرية والعملية التي تقوم عليها تكتيكات الإنقاذيين لإجهاض انتفاضة ديسمبر المتصاعدة في اتجاه إسقاط النظام. وهي تشمل في جانبها العملي إعلان قادة الجيش وجهاز الأمن وقوفهم خلف البشير، واجتماعه بضباط الشرطة وقادتها، ولقاءه بالعاملين والنقابات والمهنيين والمعاشيين بقاعة الصداقة في 3 ديسمبر الجاري. وإلى ذلك يضاف الموكب المضاد المؤيد للبشير المقرر تسييره من الساحة الخضراء يوم الأربعاء المقبل 9 يناير، وما يقترن به من حديث عن ترتيبات زيارته إلى مدينة الفاشر بدعوة من الوالي محمد يوسف كبر… إلى آخره.  ولا غرو أن تستميت عصابات مافيا النظام الإسلامية في تصعيد ثورتها المضادة هذه في مواجهة الانتفاضة بوصفها طوق النجاة الوحيد الذي تتشبث به عناصرها الإجرامية لإدامة نظام حكمهم ولحماية الثروات الهائلة التي نهبوها من المال العام وللإفلات من عقاب محلي ودولي بانتظار كبار قادتهم، بمن فيهم الرئيس الملاحق من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
حصان طروادة انتخابات 2020
وعلى طريقة وزير الدعاية النازي المعروف غوبلز، فإن من يسمع أهل الإنقاذ وهم يؤكدون مرة تلو الأخرى حرصهم على إجراء انتخابات 2020 باعتبارها الأداة الوحيدة لانتقال السلطة سلميا وديمقراطيا، يظن أنّ سُرَّتهم قد دٌفنت في حوش انتخابي ديمقراطي، وأنّ الديمقراطية تجري في شرايينهم جريان النيل في بلادنا، وأنها جزء لا يتجزأ من حمضهم النووي. فتكرار الكذبة والدق عليها دون ملل يحيلها بغتة إلى حقيقة يصدّقها حتى من أطلقها أول مرة.
ألم تأتنا الإنقاذ نفسها على ظهر دبابة غدرت بنظام ديمقراطي منتخب وكانوا هم أنفسهم ممثلين فيه بنصيب كبير ومقدَّر؟
فما سر تمسكهم بالانتخابات طريقا وحيدا لتبادل السلطة؟ هل حُبّا في سواد عيونها أم عِشقا للشرعية والديمقراطية؟
يذكر الكثيرون منا نحن أجيال ما قبل عهد الإنقاذ معركة كنس آثار مايو -التي كان الإخوان المسلمون، الحركة الإسلامية حينها- طرفا أصيلا ولا يتجزأ منها. وضمن تلك المعركة كانت المطالبة المُلحّة بإلغاء قوانين سبتمبر 1983 التي سَوَّف رئيس الوزراء الصادق المهدي في إلغائها حتى لحظة انقلاب يونيو  1989.
وفي مواجهة تلك المطالب المتصاعدة، نظَّم أعضاء الجهبة القومية الإسلامية مسيرتهم الشهيرة “موكب أمان السودان” في حين شدّد خطهم الدعائي المعبَّر عنه في “جريدة الراية” و”صحيفة ألوان” على الدعوة الحاسمة لإقامة الانتخابات في موعدها الذي حدده المجلس العسكري بتاريخ أبريل 1986، أي بعد عام واحد من توليه السلطة الانتقالية لما بعد الانتفاضة. وشدد أيضا على التمسك بقوانين الشريعة الإسلامية (قوانين سبتمبر) علاوة على دعم القوات المسلحة، أو كما يسميها شيخهم الراحل الترابي “أهل الشوكة”. وكان المجلس العسكري الانتقالي حينها قد أمّن لهم سلفا طريق الفوز بانتخابات عام 1986، بتفصيله قانون الانتخابات وتوزيع الدوائر الانتخابية على مقاسهم تماما.
في الوثيقة المسرّبة لمحضر ذلك الاجتماع العسكري بقيادة البشير، وصف الضباط المجتمعون عملية “الحوار الوطني” بأنها ليست سوى وسيلة لخداع الغرب بالتسوية والمصالحة والانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة.
وبالدافع المخادع ذاته، هاهم يكنشكون اليوم في انتخابات 2020 ولا يفترون من لوكها لبانا ماسخا في أفواههم وهم يتأبطون بها شرا لا فكاك منه للسودان وشعبه. فهم يعلمون جيدا أنها ستكون طوق نجاتهم وشرعيتهم الوحيد، ليس لأنهم أكثر استعدادا ولا شعبية من القوى السياسية الأخرى، بل لأنهم تدربوا على هندسة تزوير الانتخابات وغشّها كما قال شيخهم الراحل: مافي انتخابات واحدة ما زوّرناها، كانت اتحادات طلاب ولا نقابات مهنيين ولا انتخابات عامة… كله زوّرناه. فتلك طريقتهم المجرّبة في اختطاف الديمقراطية وتقويضها من داخلها بتكتيك الهجوم عليها من جوف حصان طروادة الخشبي.
ومن بداهة القول أن من لا يحتمل أن يكون للمحامين أو الأطباء كيان مهني مستقل عن السلطة يمثلهم -كما رأينا في انتخابات كلتا الفئتين- فدونه خَرْط القتاد حين يأتي الأمر لانتخابات مصيرية تهدد بقاء دولة مافيا عصابتهم وإسلامهم السياسي التي يريدون لها أن تستمر إلى يوم يبعثون.
ومن بداهة القول أيضا، أن من يزوّر الإرادة الشعبية عبر صناديق الاقتراع يهون عليها تزويرها بمواكب شعبية زائفة مثل موكب الساحة الخضراء المرتقب يوم الأربعاء 9 يناير.
وهل من استفتاء على شعبية هذا النظام أعلى دويا وشرعية من الانتفاضة ضده، ومن دماء الشهداء الذين مهروا بحياتهم وطنا حرا ديمقراطيا وسلميا حقا؟
–        إياكم وخدعة انتخابات 2020
–        حذارِ من تكتيكات الثورة المضادة ومكائدها وأساليبها
–        تنبهوا من أن يهجم عليكم الغول
وتكسر حنكك
تكسرسِنّك
ما عايزنك
#تسقط_ بس

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..