اني ماشي أم فكو

نُشر بجريدة التيار المملوكة للصحافي عثمان ميرغني قبل فترة قصيرة مقال عنوانه (ارفعوا الجلابية ) و هو مقال أثار ردود أفعال دفعت الجهات المعنية إلى إيقاف صدور تلك الجريدة وتعرض صاحبها للمساءلة و لا ادري ماذا حدث بشأن محاكمته و ما صدر له أو عليه من حكم ، غير أن ذلك المقال ذكرني برواية حكتها لي زوجتي عندما عملت مدرسة بقرية صغيرة شمال غربي مدينة الأبيض لفترة لم تتجاوز عاما واحدا حيث قالت أنها أثناء تفتيش الطالبات في الطابور الصباحي وهو إجراء روتيني معروف طلبت من احدى الصغيرات رفع فستانها للتأكد من نظافة ما تلبس تحته و لكن الصغيرة تمنعت بشدة وعندما توجهت زوجتي نحوها لحثها على رفع فستانها قالت لها : عليكي الله يا أستاذة خليني أنِي “تليس” يعني (أم فكو). خلت عنها زوجتي كما ذكرت وقد كانت تحكي لي تلك القصة ، في معرض تجاربها بتلك القرية باعتبارها احد المواقف الغريبة الممزوجة بشيء من الطرافة و لكنها لاحظت أني لم انفعل بما روت كما توقعت بل أنها لاحظت ما انتابني من حزن و أنا استمع اليها و قد حبستُ كثيرا من الدمع و أنا أتصور مأساة تلك الطفلة وإصرارها على مواصلة تعليمها رغم معاناتها المخفية و ربما كان حال زميلات أخريات لهذه الطفلة مثل حالها و لكنها كما يقول المثل ( وقعت في القيد).
تشبه هذه الواقعة من حيث مغالبة المعاناة و الإصرار على مواصلة الدراسة ما كانت تقوم به احدى التلميذات في ضواحي أم درمان حيث كانت تملأ كيسا صغيرا من دقيق الذرة و تذهب به إلى المدرسة وحين تجئ ساعة الإفطار كانت تتسلل إلى مزيرة صغيرة خارج أسوار المدرسة فتعبئ فمها بالدقيق ثم تلحقه بقليل من الماء و تُكرر ذلك اكثر من مرة إلى أن تكمل وجبتها (المبتدعة ) ثم تعود و تواصل دراستها و كأن شيئا لم يكن ومعروف بالطبع أن إضافة الماء إلى الدقيق يشعرك بالشبع إلى وقت طويل ، غير أن احدى المعلمات ارتابت في ما كانت تقوم به تلك التلميذة بعد ملاحظة خروجها المتكرر في مثل هذه الساعة بالذات فتابعتها يوما حتى أمسكت بها وهي “تتعاطى” إفطارها البئيس فحكت لها التلميذة معاناتها وكيف أنها كانت تستحى من زميلاتها فتلجأ إلى التخفي عنهن لتناول إفطارها فبكت الأستاذة ما شاء لها البكاء ثم نقلت قصة هذه المأساة إلى مديرة المدرسة و بقية المعلمات اللائي اتفقن على تبني هذه التلميذة و التكفل بوجبة إفطارها حتى تترك المدرسة بعد التخرج.
و ثمة طفلة ثالثة حدثت حكايتها بمدينة الأبيض حين ضرب الجفاف و التصحر أصقاع كردفان الشمالية عام 1983م فأقيمت فيها عيادة طارئة في ما عُرف وقتها بمعسكر الغابة لمعالجة حالات النازحين و تخفيف الضغط على مستشفى المدينة ذي الإمكانيات الشحيحة أصلا فدخَلتَ إلى عيادة صديقنا دكتور عثمان * ذات يوم بدوية نحيلة يبدو علي محياها آثار التعب إن لم تكن علامات الجوع والسهر و السهاد و خاطبته بصوت منكسر خفيض و لهجة بدوية بينة ” يا دكتور البنية دي تعبانة ، الليل كلو ما نامت و ما خلتنا ننوم معاها ” نهض دكتور عثمان من كرسيه و حنى رأسه ليرى هذه “البنية” التي كان يفصل بينه و بينها تربيزة يضع عليها أجهزة الفحص و قليل من الأدوية و لكنه لم ير شيئا فقد كانت الصغيرة تتوارى خلف والدتها لإدراكها لما هي عليه من حال لا يسر ثم ما لبثت أن اطلت على د. عثمان بعد أن شدت والدتها على يدها بحزم لتظهرها له قائلة (تعالي جاي يا بني)، اطلت الطفلة و ليتها لم تطل (كما عبر لي دكتور عثمان عن ذلك) وهي عارية تماما إلا من بياض قلبها و قليل من نضرة طفولتها. يقول دكتور عثمان انه فرك عينيه اكثر من مرة ليتيقن مما رآه و هاله أن هذه الطفلة ليست في طفولتها الأولى كما ظن أول وهلة ولكنها في عمر يمكنها من الإدراك و بالتالي لم يستغرب ما أبدته من حياء ظاهر حين فرضت عليها ظروفها القاهرة التعرض لهذا الموقف المحرج ، بدت نحيفة البطن نحيلة الجسم بادية العظام و هي اقرب ما تكون حسب وصف دكتور عثمان لاحد ممثلي فلم الرعب night of the living dead الذي تم عرضه بعد تلك الواقعة بسنوات . أخذت تلك الطفلة ما تيسر من أدوية في ذلك اليوم ولكن طبيبها حرص أن يزودها ومن حوله من العاملين بما يستطيعون من مال رجاة أن تشتري به ما تقيم بها أودها وأسرتها و لو ليوم واحد لأنه رأى أنها (مكوفرة) اكثر من كونها مريضة.
علقت على الصورة التي بعث بها الينا د. عثمان الذى بدا هزيل الجسد و هو يمارس عمله في تلك العيادة الطارئة وقتئذٍ فرد علي “وهل لمن كان له قلب أو مشاعر إنسانيه أن تتبقي له شهية لطعام أو نوم فتلك الصبية وأخواتها ما كان لهم و لم يكن باستطاعتهم أن يستروا بطنا ولا جسدا، فلقد كانوا كجسد عمار ابن ياسر الذي قيل انه لما أرادوا تكفينه لم يكف ثوبه، فإن غطوا الرأس ظهرت الأرجل أو العكس فسُتر ما تبقى من جسده بجريد النخل إذ مات وهو لا يملك شروى نقير” . كذلك بنتنا هذه يملك أهلها الزرع والضرع والخير لكل السودان، ولكن عندما جاء أرضهم المحل والقحط والجفاف تنكر لها و لأهلها جل مواطنيهم وتركوهم يعانون أسوأ ما تكون المعاناة.
حال أولئك التلميذات يمثل الفارق الكبير بيننا نحن سكان المدن و بين “جيراننا ” أهل القرى وأطراف المدن حيث لم يحدّث معظمنا نفسه بتلمس حاجاتهم إلا حينما نعثر مصادفة على مثل هذه الحالات ، فنحن نذهب إليهم فيكرموا وفادتنا ويضعونا على حدقات عيونهم ولكن حين يضيق بهم الحال و يلجأون الينا مضطرين نعرض عنهم و نبدي لهم من المشاعر ما لا يستطيعون أن يجدوا له تفسيرا منطقيا . ينتابني شعور قوي بأن اللعنة التي حلت بنا و تداعياتها الظاهرة المتمثلة في حروب دافور وجنوب كردفان و غيرهما كان مردها ضمن أسباب أخرى إهمالنا لهؤلاء المساكين الذين استجاروا بنا فلم نجرهم و احترمونا فلم يجدوا منا إلا كل صدود ، فلنعد إلى أهلنا الطيبين في الأرياف وأطراف المدن تعود الينا الحياة و يعود الخير و البركة.

يحيى حسين قدال
[email][email protected][/email]

*دكتور عثمان حاج عبده – مقيم حاليا بجمهورية إيرلندا

تعليق واحد

  1. الف شكر علي المقال القيم
    حكي لنا ابن خلي وقد كان يعمل شرطيا ابان مجاعة84 انه وبعض زملائه
    زاروا معسكر المويلح ومروا بخيمة يقطنها احد عرب كردفان,اصر عليهم الرجل اصرارا عجيبا ان يتناولو معه وجبة الغداء وهو يردد تفضلو الخير راقد
    استجابوا لالحاحه وكان الغداء بليلة عيش!كرماء وفي زمن المحق

  2. شكرن أخي الاديب القدال..وشكرنين على هذه الصور الإنسانية التي وضعتها لنا حروفا زاهية..ومع كامل الإحترام..كنا ولا نزال “أنينا” اهل الضهاري والأرياف..نعتقد جازمين ان المدن هي التي “تجاورنا” بل انها تمتص خيراتنا في تبادلية غير كفئة..بل تنمو المدن وتكبر وتنتفخ كما “القراد” ملتصقة على مواقع جسد الريف الرهيفة..وتلقي له بعض فتات انتاجه وجهده ومعاناته مع الأرض..واهل المدن هجروها عندما ضاقت بالريف الكوارث..وناس الخراتيم تجنسوا بجنسيتين..واحدة للفرار عند الحاجة والأخرى يحكموننا بها..وهم عمي بكم من كل الصور التي عكستها..

  3. الله يبارك فيكن هذه المقالة ستغير حياتي إن شاء الله و سأبدأ في الانفاق على من أراه محتاجاً ممن قدموا الى العاصمة من أهل الريف ما استطعت.

  4. اخي يحيي انت دايما تقلب علينا المواجع وشكرا لك علي ذلك اذكر قصه حكاها لنا احدي المسؤولين لا داعي لذكر الاسم انهم وفي احدي رحلاتهم في اوديه كردفان توقفوا عند قريه واستقبلهم كعاده اهلنا الطيبين رجال ونساء القريه بكل حفاوه ولكن لاحظ الرجل ان المستقبلين ليس بينهم اطفال وسال الا يوجد اطفال بالقريه فاجابه احدي الرجال لدينا اطفال ولكن لا نسمح لهم بالخروج في الشمس حتي لا يعطشوا لان لدينا شح في المويه.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..