
العلاقة بين مصر والسودان علاقة أزلية ، والنيل الذي يربط البلدين جغرافيا ، ربطهما أيضا اجتماعيا واقتصاديا ، والناظر للأمر بحكمة وواقعية ، لا يخفى عليه أن كلا من البلدين لا غنى له من الآخر ، كالرأس وبقية الجسد في الجسم الواحد ، يجب أن يستمرا ملتصقين لتستمر الحياة .
العلاقة بين الشعبين وطيدة للغاية ، يزيدها متانة تشابه العادات والتقاليد إلى حد كبير، وربما يشوب العلاقة نوع من التناكف والحساسية كعلاقة (الطردة) من الأخوان ، يكونون دائما في حالة نقار وتصيد للأخطاء بالطبع في أي مجتمع يوجد الصالح والطالح ، وأنا أرفض تماما الأحكام الجمعية وإسقاط الظواهر السلبية على شعب كامل بناء على حالات فردية.
الحكومات المصرية المتعاقبة وعت مصالحها جيدا والدور الذي يلعبه السودان في بناء اقتصادها الوطني ، فحرصت على الاحتفاظ دائما بعلاقات ودية مع السودان ، وهذه اعتبرها محمدة وتفكير منطقي وسليم من جانبهم ، والتفريط في مثلث حلايب وشلاتين كان عمالة وخيانة من حكومة المؤتمر اللا وطني الآثمة التي أودت بهذا البلد إلى التهلكة ، وكل الدمار والخراب الذي نواجهه الآن ، وحتى هذه الحرب التي كانت الطعنة الأخيرة في خاصرة هذا الوطن من نتائج ومآلات أفعال هؤلاء الفاسدين الأوباش الذي ضربوا مثالا حيا للتجرد من القيم والمثل ، الخيانة ، انعدام الوطنية والتضحية بوطن كامل وأهله في سبيل المناصب وتكديس الأموال والممتلكات الحرام ، وما هذه المليشيا التي أحالت حياة المواطنين إلى جحيم ، احتلالا وتشريدا لهم من منازلهم ، سلبا نهبا ، عدوانا واغتصابا ، إلا صنيعة الإنقاذ ونظامها الأرزقي الفاشي .
جاءت هذه الحرب كمحصلة لكم هائل من الأخطاء التي تورط فيها الجميع ، حميدتي وحلمه في بناء امبراطورية دقلو ، البرهان وحلم والده المزعوم ، قحت واستبسالهم من أجل تمرير الإطاري بغرض الاستوزار والتمنصب حتى ولو اقتضى ذلك وضع يدهم في يد زعيم المليشيا كحاضنة سياسية له ، أحزاب الفكة ومواقفها الرمادية ، تولدت الحرب جراء هذه الاختلافات الجوهرية في الرؤى والتخطيط ، والاتفاق الكامل بينهم جميعا على استبعاد الوطن والمواطن من أجنداتهم الرئيسية والفرعية ، جاءت الحرب لتحيل عاصمة البلاد بمدنها الثلاثة إلى مدينة أشباح مورست أخطر وأبشع أنواع الجرائم التي لم تعهدها هذه البلاد الآمنة من تشريد ، ونهب مسلح ، قتل واغتصاب ، وكان الضحية كالعادة هو الإنسان السوداني المسكين الذي ظل دوما يدفع ثمن فساد الحكومات على تعاقبها منذ الاستغلال .
فوجئ المواطنون بإطلاق الرصاص، المقذوفات والدانات، وبدأت الخسائر في الممتلكات والأرواح ، وكان لزاما عليهم الفرار ، ترك الناس بيوتهم وأخذوا بضعة أغراض بسرعة وهربوا من الخرطوم ، منهم من ذهب إلى ذويه وأهله بالولايات ، ومن سمحت له ظروفه المادية ، آثر الفرار إلى مصر ، ومصر مألوفة للسودانيين والحياة فيها سهلة والحصول على الاحتياجات الأساسية فيها متاح ،
وجهة نظري الشخصية أن مصر حكومة وشعبا أوفت حق الجوار ، ودخل الهاربون من أتون الحرب إلى مصر بالكميات ، وقدمت الكثير من التسهيلات في المعابر للمرضى، كبار السن ومن فقدوا جوازاتهم .
وبالرغم من الأعداد الهائلة كان الناس يدخلون الأراضى المصرية في خلال بضعة أيام، لكن للأسف الشديد ، ولأننا شعب تربى لثلاثين عاما تحت ظل حكومة لا تعرف إلا اللف والدوران ، وسيطر منتسبوها على السلطة والثروة بسياسة التمكين المأفونة ، ازداد خلال هذه الثلاثين عاما الفقر والتفرقة والاضطهاد للعامة ، نتج عن ذلك تردي عام في كل نواحي الحياة ، الاقتصادية والاجتماعية . الأدهى والأمر فقدان القيم والمثل، الأخلاق الكريمة التي (كان) يتميز بها السودانيون ، تحولنا إلى شعب معاق نفسيا ، يتصف بالحقد والحسد ، الانتهازية والغدر ، شعب ملئ بالسلبية والمضرة ، وهو أكثر ما يكون مضرا لبني وطنه .
وأفرزت سياسة التمكين أيضا، باقتصارها لفرص العمل على الموالين لها في القطاعين العام والخاص ، جعل هذا الاحتكار أكثر من نصف المواطنين يعملون كسماسرة ، وتجد أن أي سلعة أو خدمة يتضاعف سعرها أضعافا بين المنتج والمشتري .
وكانت نتيجة العقلية السمسارة هذه وبالا على هؤلاء الفارين إلى مصر ، ولا أبرئ هنا المصريين من تورطهم في هذه العمولات فهذا الأمر على حد علمي منتشر عندهم إلى حد كبير وفي عداد المباح أو المقبول حسب عرفهم ، ولكن المؤسف هو استغلال السودانيين لظرف الحرب والنيل من إخوانهم الفارين ليغتنوا ويثروا ، وتورطهم مع المصريين في استخراج التأشيرات ، وتسهيل إجراءات الدخول إلى مصر نظير مبالغ فلكية لا طاقة للناس بها خاصة وأن الحرب كانت القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد السوداني المتهالك أصلا ،
هذا من جانب ، من جانب آخر، تم اكتشاف كمية من حالات التزوير في وثيقة السفر، التأشيرات والمستندات ، مما جعل المصريين يتخذون أسلوبا متعنتا وقاسيا في الإجراءات التي كانت بسيطة وسهلة ، منعوا وثائق السفر ، جعلوا اجراءات استخراج الڤيزا صعبة وطويلة ومؤلمة ، ويرجع الفضل في هذا الأذى للسودانيين الذين تحولوا إلى شعب مؤذي للغاية .
رجوعا إلى فئة السماسرة ، فحتى الذين وصلوا إلى القاهرة عانوا الأمرين من سماسرة العقارات السودانيين هناك والذين تعمدوا منهجا يؤدي إلى زيادة الطمع عند المصريين ليحصلوا على أسعار أعلى بكثير من القيمة الفعلية لعقاراتهم ، وهو بالضبط الذي حدث في مدني ، عطبرة ، شندي وبورتسودان ، التي وصل فيها إيجار بيوت الطين إلى ألف دولار في الشهر،
أختتم مقالي بأننا نحتاج حقيقة إلى إعادة التأهيل والنهوض من هذا المستنقع الذي انغمسنا فيه ومحاولة العودة إلى الأخلاق والمثل التي طالما تميزنا بها بين الأمم،
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،،،