مقالات وآراء

عن الخديعة الكبرى وذاكرة العنصريين الصغرى

د. الوليد آدم مادبو

في قلب الأزمة السودانية الراهنة، يتجلى اختلالٌ عميق في الوعي السياسي والتاريخي، تجسّده بنية ذهنية مهيمنة في المركز الشمالي، اعتادت أن تتموضع كضحية بينما تتجاهل دورها البنيوي في تفكيك الوطن وجرّه إلى الهاوية. هذا “العقل الشمالي” لم تصنعه النخب الإسلاموية، لكنها استثمرت فيه واستغلّت لحظة ارتباكه بعد الحرب، حين أصيب بشلل عاطفي وذهني بسبب هول الجرائم والانتهاكات، التي لم تكن وليدة الفوضى، بل نتاجًا مباشرًا لمخططات الإسلاميين الذين خلطوا الأوراق عمدًا، وأطلقوا سراح المجرمين، وورّطوا القوات النظامية كافة في خيانة الدولة والمجتمع.

لقد أُصيبت تلك النخب بما يشبه فقدان الذاكرة الثقافية (cultural amnesia)، فلم تعد تتفاعل مع الواقع بصفاء معرفي، بل عبر شروخ نفسية تقودها إلى وهم انتصار عسكري قد يُعيد لها امتيازاتها الضائعة. لم تعِ بعد أنها في موقف وجودي هش، وأنها في كل يوم حرب تخسر من رصيدها الجغرافي والديمغرافي والاستراتيجي. ولهذا، بدلاً من أن تبحث عن خلاصٍ تاريخي، اختارت دفن رأسها في الرمال، مستندة إلى خطاب مفكّكين تبريريين أمثال عبدالله علي إبراهيم، الذي لا يضاهيه في جنوب إفريقيا إلا شخصية عنصرية بغيضة كـ Eugène Terre’Blanche، بينما كان الأولى أن تقتدي بنموذج مسؤول كـ F.W. de Klerk، في وعيه بضرورة إنهاء الهيمنة والتأسيس لعدالة تاريخية، شبيهة بما عبّر عنه مفكرون سودانيون من طينة د. منصور خالد (رحمه الله)، ود. النور حمد ود. أحمد التيجاني سيد أحمد.

إن استعادة السودان لعافيته لن تتم إلا بالعودة إلى عمقه الأفريقي، الكوشي والنوبي، الذي طالما اعتبرته تلك النخب عبئًا إثنيًا ودينيًا يُعطّل مشروعها الأيديولوجي الريعي، الذي لا يراعي الروابط الإنسانية ولا المصالح الاقتصادية الاستراتيجية. وكلما أوغل السودان في هذا العمق الحضاري، كلما شعرت هذه النخب بالضياع، لأنّه يسحب البساط من سرديتها المركزية المتعالية.

على طول الطيف الأيديولوجي — من الشيوعي إلى البعثي إلى اليميني والطائفي — تحالفت القوى التقليدية كلها مع المؤسسة العسكرية، لا باعتبارها حارسًا لمصالح الأمة، بل ضامنًا لمكاسبها السلطوية. فلم يكن الجيش أداة لحماية الوطن بقدر ما كان ملاذًا أخيرًا لنظام اجتماعي آخذٍ في التفكك. وكان من الممكن إعادة تعريف العلاقة مع الجيش بعد الثورة، بفرض قيادة مدنية تُخضع لجنة الأمن والدفاع لرئيس الوزراء، لكن ضعف أداء القيادة المدنية وتواطؤها مع قوى الهبوط الناعم مهّد الطريق لانقلاب العسكر، الذين أغرتهم الخلافات البينية وشجعهم تهافت القوى المدنية، فتمادوا في غيّهم وضلالهم دون رادع.

ورغم هذا الاحتقان، الذي غذّته النخب المركزية بخطابها الإقصائي وعدائها التاريخي للريف، فإنّ العلاقة بين الشمال والغرب لم تكن يومًا علاقة قطيعة أو خصام، بل علاقة تبادلية من التفاعل والتأثير؛ فقد أفاد الشمال من الغرب ماديًا وروحيًا، إذ راكم كثير من تجّاره ثرواتهم في أسواق الغرب، كما وصلت إليه بعض الطرق الصوفية والروايات القرآنية من هناك. وبالمقابل، نهل الغرب من معارف الشمال الإدارية ومساهماته الثقافية والفكرية. لا غنى لأحد عن الآخر، ولا يليق بشعب ذي ذاكرة حية أن يسمح لفئة مارقة مثل الإسلاميين (الكيزان المفسدين) بأن تُفرّق بين أهله.

إن الأزمة الحقيقية ليست في الأشخاص أو التنظيمات، بل في العقل السياسي العقيم، الذي تعامل مع الحكم كتوازنات ظرفية لا كفرصة لاجتثاث البنى العميقة للدولة، وتفكيك شبكات الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية. ولولا ذلك، لكان بالإمكان الاستفادة من لحظات الثورة المتكررة (أكتوبر وأبريل وديسمبر)، لكن الجديد هذه المرة أن الريف لم يعد هامشًا سهل الترويض، بل قوة واعية، تملك أدوات التنظيم، وتعرف كيف تفضح الهيمنة وتكشف أساليبها الملتوية.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن فهم الحركة الشعبية شمال إلا بوصفها طليعة لهذا الريف الجديد، في مقابل قوات الدعم السريع التي خرجت، ولو مؤقتًا، من عباءة التوظيف السلطوي، لتطرح نفسها كفاعل سياسي يبحث عن موقع له في مشهد وطني مغاير. وقد تخلل مسارها تجاوزات فادحة لا تُعزى فقط للعنصرية، بل لأخطاء فعلية ارتكبها جنودها في الجزيرة وأم درمان، غير أن الهجوم المتواصل عليها من النخب المركزية لا يخلو من نوايا تبريرية تنزع عن الآخرين مسؤولياتهم، خاصة الجيش، ومغرِضة تُلقي بالجريرة على الريف الغربي ككل.

أما النخب المركزية، فإنها لم تفقد امتيازاتها فقط، بل فقدت أيضًا القدرة على نقد الذات، ولجأت بدلًا من ذلك إلى حِيَلها القديمة، حيث باتت تتذاكى على الأطراف بمزاعم التفوق التاريخي والموروث الثقافي تارة، وباسم القومية والوطنية تارة أخرى، وكأن الوطن مِلكية حصرية لا يُسائلها فيه أحد. لقد تغيّر السودان، ولم تعد هذه النخب قادرة على خداع أحد، لا بخطابها المتعالي، ولا بحنينها إلى “لحظات الصفاء” التي لم تكن إلا لحظات احتكار وهيمنة واحتقار للآخرين. وإذا لم تتوقف عن هذا الانكفاء المرضي (Pathological withdrawal)، فستجد نفسها — هذه النخبة — خارج معادلة الوطن الجديد، معزولة، مشلولة، تندب ذاكرة لم تعد تهم أحدًا.

في خضم هذا الانهيار، يثير العجب موقف بعض مثقفي شرق السودان، الذين لا يزالون يتهيبون منازلة هذه النخب المركزية وكشف هشاشة خطابها، فتُشغلهم بخرافات القرب الإثني، وتمنّيهم بامتيازات لا تأتي، بينما المصلحة الحقيقية للشرق تكمن في الارتباط العضوي بغرب السودان، لا بالتماهي مع مركز بات مريضًا وغير منتج. مد خط سكك حديدية يربط بورتسودان بالجنينة، مثلاً، سيحدث تحولًا جذريًا، ويعيد السودان للعب دوره كممر حيوي لأسواق أفريقيا المأهولة بما يقارب 400 مليون نسمة كانت تعتمد على صادرات السودان قبل أن تدمّر الإنقاذ 22 ألف مصنع في الخرطوم في واحدة من أفظع جرائمها الاقتصادية، وذلك قبل الحرب.

الشمالية، كما الجنوب والشرق والغرب، بحاجة إلى من يُحرّرها من سلطة كيزانية مشبعة بالعنصرية والجمود، لكنها فضّلت أو آثرت التماهي تُقيةً مع خطاب الإسلاميين الإقصائي البليد. أليس هذا هو الشعب الذي أنجب حميد والطيب صالح والصادق الشامي، وحيدر إبراهيم وأزهري محمد علي، وكل الذين أسهموا في إثراء الفكر والثقافة ومناهضة الاستبداد؟ هؤلاء لم ينكفئوا على أقاليمهم، بل مدّوا الجسور مع سائر السودان، وأدركوا أن الهوية لا تتجزأ، وأنّ لا مستقبل لشعب يتخاصم مع نفسه ومع سائر مكوناته.

وإنّ اللحظة الراهنة، بكل تعقيداتها، تفرض على الجميع أن يعيدوا تعريف المواطنة، وأن يفهموا أن وحدة السودان لا تُبنى بخطابات الإخضاع ولا بأوهام الأفضلية والعنصرية، بل باعترافاتٍ صريحة بالخطأ، ومشاريع متكافئة في التنمية، وعدالة انتقالية تُحاسب من أجرموا، وتُصالح من ظُلموا، وتُخرج الوطن من ليل التسلّط إلى صبح المشاركة والاحترام المتبادل.

 

‫16 تعليقات

  1. أليس هذا هو الشعب الذي أنجب حميد والطيب صالح والصادق الشامي، وحيدر إبراهيم وأزهري محمد علي، وكل الذين أسهموا في إثراء الفكر والثقافة ومناهضة الاستبداد
    ديل كلهم شماااااااااااليين ياوهم ومن مركز المركز

    1. لماذا لم تقرأ بقية الفقرة يا وهم “وكل الذين أسهموا في إثراء الفكر والثقافة ومناهضة الاستبداد؟ هؤلاء لم ينكفئوا على أقاليمهم، بل مدّوا الجسور مع سائر السودان، وأدركوا أن الهوية لا تتجزأ، وأنّ لا مستقبل لشعب يتخاصم مع نفسه ومع سائر مكوناته”
      وإذا قريت وما فهمت نشرح ليك: قد يكون كل هؤلاء شماليين لكنهم في فكرهم وإبداعهم خاطبوا مشاكل كل السودان بكل جهاته وثقافاته. فهمت يا وهم

  2. الدعم السريع مليشيا قبلية من الرزيقات والمسيرية كونتها الجبهة الاسلامية للايجار خارج الوطن للارتزاق فى حرب اليمن وداخل السودان ضد القبائل التى حملت السلاح ضد مشروعها الاسلامى العربى الاقصائى . ودب الخلاف بين القيادات العسكرية للاخوان واطماع المال والسلطة والذهب واشتعلت بينهم نيران الحرب التى لا نتمنى ان تنطفئ الا بالقضاء عليهم جميعا ويصبحوا رمادا تذروه الرياح . ما ذنبنا نحن ابناء الوسط النيلى الذى اطلق عليه الجناح العسكرى الاخوانى للدعم السريع المكون من ابناء الرزيقات والمسيرية صفة الجلابة ودولة 56 وناصبونا العداء ونحن لسنا طرفا فى قبيلة الاخوان ؟؟؟ سيتفاجأ ابناء الرزيقات المغيبين عندما يتصالح الاخوان على جثة السودان ويتقاسم حسبو ومسار وشمار ودقلو وفضيل وكرتى وايلا واحمد هارون وقوش ما بقى من رماد السودان ولا عزاء للمخدوعين من امثال مادبو وتراجى والحلو وسنداله وبرمه والفاضل الجبورى غرب كردفان كما يردد الساذج .

  3. اتمنى ان تخلص نفسك من مرض الجهوية والعنصرية ابوك العمدة قالها على الملا اذهب كلم والدك قال حميدتي ابن القبيلة والقبيلة اهم من الدولة تقدر تمسح الخطاب دا عن اي عنصرية تتكلم وانت راضع فيها … اي مقال يطلع مقابلة يبدا ما اصلا وبفلسفه ويخلف رجله عامل نفسه مفكر العصر ما اصلا الشماليين ما اصلا المركز ما اصلا دولة 56 ياخي انت اذا دخلت السودان 56 ماسك ليك ضنب تور معليش لكن هذه شعوب من قبل الميلاد وميلاد بريطانيا تقول 56 وانت تذهب تستنجد وتجتمع مع عراب 56 الجعلت انت ود ناظر

  4. قال حميدتي ابن القبيلة قبل ان يكون ابن السودان وحميدتي خط احمر واي تحدي هو تحدى للرزيقات وقال والله لو لا عيالنا في الخرطوم ندكها ……………. انت فاكر نفسك شنو وبتتحدث باي صفة تتضارى وتترك الجهله ضحايا لمشاريعك الهدامه

  5. طول ما انت تعاني من عقدة وفوبيا الشماليين المستعصية التي تسكنك كما الكثيرين من الغرابة ستطيش سهامك ولن يقرا لك احد لقد فقدت البوصلة واصبحت مثلك مثل اي جنجويدي شفشافي حرامي جاهل حاقد على الشماليين الذين لم ياكله حقه ولا يعرف كيف يفرق بين المواطن الشمالي والحكومة هسه فرقك شنو عليك الله يا دكتور من اي جهلول جاهل جنجويدي شايل سلاح وقاعد يسرق وينهب ممتلكات الشماليين ويقول هذا حقه وانت تتقافز وتهلل فرحا وحبورا وشامت لشفشفة اهلك الجنجويد للجلابة !! والله دي مهزلة انحدار شخص متعلم مثلك لهذا الدرك السحيق من التفكير الضحل والسطحية والتسطيح الفكري انت ياوليد مادبو ظهرت على حقيقتك من انك شفشافي وشفشفتك بي عنصريتك القاعد تسطرها بقلمك تبا لعلم لم يفيدك ولم يرتقي بمستوى فكرك وتفكيرك وقلم ما بزيل بلمك اعدتنا لدعوى مادبو الكبير القال عايز يطوي الخرطوم طي اهي الحرب وصلت عقر دارك وستحرق اهلك وجنجويد وتعدمهم نفاخ النار النشوف حتستفيد شنو من حربك العنصرية وشفشفتك لممتلكات المواطنين وخطابك القادم الشامت في الشماليبن حتقول فيهو شنو

  6. دكتور وليد ، ماذا عن تهديد عمك – بطوي العاصمة في خمس دقايق ؟ جثنا عن انحياز أسرتكم آل مادبو للدعم السريع الذي أفسد في الأرض فسادا لم يشهده الكون

  7. لا غنى لأحد عن الآخر، ولا يليق بشعب ذي ذاكرة حية أن يسمح لفئة مارقة مثل الإسلاميين (الكيزان المفسدين) بأن تُفرّق بين أهله.

    هذا هو الزيت الحقيقي الغير مغشوش بزيت فرامل .!!!!

  8. وليد مادنقو…… يخيل لي انك تكتب مقال وتنشرة ثم تاتي وقراءة بعد كم يوم وتظن ان الكاتب شمالي وتري عنصرية المقال وتنسي ان الكاتب هو انت…….. يعني يا مادنقو كل مقال يدحض سابقه

  9. عندما تقرأ تعليقات هؤلاء الاشخاص لمقال كهذا وتجد مستوى فهمهم الضحل لايستوعب منه شيئا سوى فكرة الصراع القائم بين الشمال والغرب! ستفهم حينها ان فكرة خروج هذا البلد من كابوس الحرب القائمه لن يحدث قريبا.السودان انهار على مستوى البنية التحتيه والبشريه كذلك.
    فكرة ان ننهض جميعا كقوميه واحده انتهت منذ ال١٥ من ابريل ٢٠٢٣ الان اما ان يتلاشى هذا البلد من الوجود او يتحول لمرتع لمليشيات تقاتل بعضها على ماتبقى من فتات موارده.
    اكبر دوله في افريقيا تحولت رسميا لدولة فاشله اسوأ حتى بمراحل من صومال التسعينات من القرن العشرين! لقد اثبت السودانيون عسكر ومواطنون انهم اقل بكثير من ان يحظوا ببلد مليء بالخيرات مثل هذا البلد.

    1. هل تتخيل ان يتحد معكم احد يا مادبو لقد تم لفظكم والبلد لن يتفرتق لكن سيتم طردكم وتشريدكم وارجاعكم مكان ما جيتوا نازحين لدارفور التي قبلت بكم قبائلها واستقبلتكم واستضافتكم على اراضي قبائلها المسلمة المسالمة وسترى هذا اليوم بام عينك قريبا ولا تعشم بالبقاء والعيش وسط السودانيين بعدما وجهتم بندقيتكم المستاجرة لصدر الشعب السوداني ونهبتوه وقتلتوه ونهبتوا ممتلكاته واغتصبتوا حرائره بعد ان فشل انقلابكم ويئستم من استلامكم لحكم السودان يا جراد الصحراء يا حرامية

  10. حزب الامة هو المصفاة الوطنية التى تغربل العنصريين والمنحطيين واصحاب الاجندات الخبيثة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..