مقالات وآراء سياسية

تحالف الدم : خداع الهامش وخيانة الثورة

نبيل منصور

 

منذ اندلاع الحرب الأخيرة في السودان، برز تيار من الكُتّاب والسياسيين يسعى إلى تبرير التحالف مع قوات الدعم السريع باعتبارها قوة ثورية قادرة على كنس النظام القديم وبناء دولة جديدة. وتحت شعارات مثل “الثورة الجذرية” و”تفكيك الدولة المركزية القمعية”، يُعاد تقديم هذه القوة – التي وُلدت من صلب الجنجويد – في ثوب المنقذ الوطني، بل أحيانًا كالممثل الأصدق للمهمشين والتغيير.

هذا الخطاب يتبنى، بوعي أو بغير وعي، انتقائية مفاهيمية خطيرة في التعامل مع العنف والهوية العسكرية، ويتجاهل التاريخ والسياق الذي أنتج هذه القوة، كما يتغافل عن واقعها الراهن القائم على النهب والانتهاكات الموثقة والتمدد غير المنضبط في المدن والقرى.

 

أولاً : الدعم السريع كامتداد عضوي للجنجويد لا يمكن فصل “الدعم السريع” عن “الجنجويد” من حيث التكوين، والعقيدة القتالية، والممارسات الميدانية. فالاسم قد تغيّر، والمؤسسة تمّت شرعنتها عبر مراسيم حكومية، لكن البنية الأساسية بقيت كما هي : ميليشيا قبلية تم تأسيسها على أسس الولاء، لا المهنية، وتمكينها على حساب المؤسسات النظامية. والتمسك بهذا الانفصال الاصطلاحي بين “الجنجويد” و”الدعم السريع” لا يغيّر من واقع أن هذه القوات ارتكبت، وما زالت ترتكب، جرائم ضد المدنيين في دارفور وفي الخرطوم وفي غيرها من المدن.

 

ثانيًا : التحالف الانتقائي ومأزق الأخلاق الثورية

إن تبرير التحالف مع الدعم السريع تحت دعوى إسقاط الجيش أو محاربة المركز النيلي، يحمل داخله مفارقة أخلاقية كبيرة. كيف يمكن للقوى التي تنادي بالعدالة والحرية والسلام أن تتحالف مع تنظيم مارس الإبادة والتطهير العرقي والاغتصاب كسلاح حرب؟ كيف يُغضّ الطرف عن آلاف الشهادات والوقائع، ويُطلب من الضحايا أن يصمتوا باسم الثورة والجذرية؟ هذه ليست ثورة، بل صفقة على حساب دماء الأبرياء.

 

ثالثًا : خطاب “الممثل الحقيقي للمهمشين” وخطورة التزييف

يروّج بعض المثقفين لفكرة أن الدعم السريع يمثل المهمشين، بل ويعكس صعودهم التاريخي، كما لو كان حميدتي هو سليل نضال الشعوب السودانية في الهامش. لكن هذا تبسيط فج. فالمهمشون في السودان ليسوا كتلة واحدة، وليسوا مجرد أدوات عنف، بل طيف واسع من الشعوب والمجتمعات التي ناضلت بوسائل سلمية ومسلحة على مر عقود، وأسست حركات وقوى سياسية ومدنية مؤمنة بالتغيير الحقيقي، لا بالاستبدال الدموي.

 

رابعاً : تمثيل الهامش أم اختطافه؟ تفكيك الانتقائية الجديدة

من أبرز ملامح الخطاب المروّج للتحالف مع الدعم السريع ادعاؤه بأن هذه القوة تمثل “الهامش” السوداني، وأن صعودها هو تصحيح لمسار تاريخي طويل من التهميش. لكن هذا الطرح في جوهره ينطوي على انتقائية مريبة واختزال ظالم للهامش، يُختزل فيه نضال الملايين من أبناء الأقاليم في صورة قائد ميليشيا صعد بقوة السلاح، لا بالشرعية الشعبية أو البرنامج السياسي.

الهامش ليس هوية ثابتة تُمنح أو تُسحب بمرسوم أو ولاء؛ بل هو موقع اجتماعي وسياسي نتج ظهوره وتشكّله بفعل السياسات المركزية الظالمة، وناضل ضده أهل دارفور، والشرق، والنيل الأزرق، وجبال النوبة، وأقاليم الشمال والوسط، عبر أدوات متعددة: الكفاح المسلح، التنظيم المدني، الحراك الثقافي، وطرح الرؤى الدستورية البديلة.

أن يُستبدل هذا التاريخ المعقد بصيغة تبسيطية ترى أن “كل من يحمل السلاح ضد الجيش هو ممثل للهامش” هو تشويه مزدوج : تشويه لنضال الهامش الحقيقي، وتشويه لمعنى التحرر السياسي والاجتماعي. بل الأخطر من ذلك أن هذا الخطاب لا يحرر الهامش، بل يكرّس اختطافه لصالح مليشيا ذات مشروع غامض وتحالفات خارجية وأجندة غير وطنية.

 

خامساً : التبعية الخارجية ومأزق الإرادة الوطنية

إن أي قوة تسعى إلى لعب دور سياسي في حاضر السودان ومستقبله لا بد أن تكون ذات إرادة وطنية مستقلة. أما الدعم السريع، فلطالما ارتبط بتمويل وتوجيه خارجي، جعله في كثير من الأحيان يتحرك وفق أجندات لا علاقة لها بمصالح السودانيين أو نضالات المهمشين. هذا الارتهان يجعل من كل شعارات التغيير الجذري مجرد أدوات في معركة غير سودانية، تُدار من خارج الحدود، ويُدفع ثمنها من دماء الشعب وخراب الوطن.

 

سادساً : معركة الوعي والذاكرة

محاولة غسل صورة الدعم السريع عبر التحالفات الإعلامية والفكرية لن تصمد أمام اختبار التاريخ والذاكرة. ما يُكتب اليوم لتجميل صورة هذه القوات سيُقرأ غدًا كشهادة إدانة أخلاقية لمن ضللوا الجماهير باسم التغيير، ومن اصطفوا مع الجناة تحت ذريعة كسر البنية القديمة.

 

ختامًا :

إن الأزمة الحقيقية لا تكمن فقط في الدعم السريع، بل في خطاب النخب الذي يمنح الغطاء الفكري لهذه الكارثة. المطلوب ليس إعادة توزيع العنف بين الأطراف، بل تفكيك بنيته من جذوره، وبناء مشروع وطني جامع لا يستثني أحدًا، ولا يُحلّ المليشيا محل الجيش، بل يُخضع الجميع لسلطة مدنية دستورية حقيقية.

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..