أخبار السودان

عندما يغشاه الخريف.. (بيت الخليفة).. حين يغرق التاريخ

جدران آيلة للسقوط وسقوف متهالكة والزوار غاضبون

أمين المتحف : الصيانة بدأت وكل معالجة تحتاج لـ(قرش)

مبادرة السور يجمعنا : توجه نداء استغاثة لأبناء الوطن

تحقيق: إنتصار فضل الله

من المواد المحلية المتمثلة في (الجالوص).. وضع حجر الاساس ليوقع بصمة ممتدة على دفتر التاريخ، فكان العام (1887م) عاماً استثنائيا لـ(حمد عبد النور ) .. الذي قام ببناء الجزء المكون من الطابق الأرضي لـ(البيت)، وذلك تحت إشراف رجل إيطالي يدعى (بيترو)، وفي العام (1889م) اكتملت اللمسات الفنية الخلابة بتشييد الجزء العلوي المكون من طابقين، ليصبح قلعة سودانية معروشة من (الحصير والقش وعيدان القنا) المتينة، تحتوي على إحدى عشرة (صالة بمنافعها وغرفها).. فتحت أبوابها الممزوجة بالفن التشكيلي لتحتضن (الخليفة عبد الله التعايشي) خليفة المهدي وحاشيته من (الزوجات، والأبناء والحرس والحشم) وغيرهم.

ولادة التاريخ

عقدت في هذه اللوحة الواسعة لقاءات وجلسات ناقشت شؤون البلاد والتحرر من الاستعمار.. لم يمكث (الخليفة ) سوى ثلاثة عشر عاماً في (بيته)، امتدت من الفترة (1887م ـ 1898م)، وذلك بسبب الحروب، حيث أصبح الموقع سكناً لعدد من مفتشي الإنجليز المقيمين في أمدرمان.

(بيت الخليفة) لمن لا يعرفه.. يعد من المواقع التاريخية والأثرية الفخمة بالبلاد، ويبلغ عمره حتى اليوم الـ(130) عاماً، وهو يعتبر معلماً مر منه التاريخ وكتبت فيه الوثائق التي حددت مستقبل البلاد، يحتل مساحة مميزة بمحلية أمدرمان حيث تحده من الناحية الشمالية مستشفى أمدرمان التعليمي، ومن الناحية الغربية (قبة المهدي) ومن الناحية الشرقية سجن أم درمان، أما من الناحية الجنوبية فنجد بيت الأمير (يعقوب) الخليفة.

بداية التحول

شهد عام (1924م) تكوين فكرة طرحتها زوجة المفتش الإنجليزي (برمبل ) مفتش أمدرمان، تمثلت في تحويل (البيت) إلى متحف تجمع بداخله القطع الأثرية القيمة التي تحافظ على التاريخ .. فانطلق نداء مصغر لكل الإنجليز وغيرهم.. نصه كالآتي:

(على كل من يمتلك قطعة أو قدحاً أثرياً أو أي مقتنيات وآثار تاريخية) أن يحضرها، وكان مكان تجمع هذه الكنوز في بيت الأمانة بمنطقة (الموردة) والذي تحول إلى مدرسة اليوم.. وسمي وقتها ببيت (الأناتيك)، وكتب في كل قطعة اسم صاحبها وتاريخ إيداعها حفاظاً للحق المادي والمعنوي، استغرقت فترة جمع الآثار أربع سنوات، وبعدها نقلت إلى (البيت) الذي تحول إلى (متحف الخليفة)، وذلك في عام (1928م)، كما قالت أستاذة (نعمات محمد الحسن) أمين عام المتحف.

بالرغم من القيمة التاريخية التي يتمتع بها يشهد المتحف أزمة ويواجه مشاكل قادت (الصيحة) لزيارته والاطمئنان على حاله.. والسبب المباشر الذي جعل أقدامنا تطأ أرضه على غير العادة تعرض أجزاء منه لتصدعات نتيجة (الأمطار) التي شهدتها العاصمة نهاية الأسبوع قبل الماضي..

أزمة توثيق

يوم كامل قضته الصحيفة متجولة في باحة المتحف.. متنقلة بين أقسامه التي يحكي كل ركن بداخلها قصة، فالمبنى في حد ذاته قطعة أثرية يزيدها العدد المنتشر من (السياح) جمالاً، ولكن ما استوقفني تلك (المخطوطات وأدوات صك العملة) الجاثمة في أضابير المخازن عرضة للأمطار، وبعضها ملئت بها الصناديق المغلقة وتركت مهملة وسط بقايا الأشجار في مساحة تقع بالجهة الجنوبية للمكان، فأصبحت ملاذًا تلهو فيه القطط وتنثر مخلفاتها بين جوانبه، وهناك جلس وحيدًا المدفع المشهور الذي كان يطلق صوتاً داوياً في عهد مضى لينبه المواطنين إلى حلول موعد الصلاة والإفطار في شهر رمضان، كما وقفت الصحيفة على مناظر الجدران المتصدعة، التي تشبعت بمياه الأمطار والتي كادت أن تجثم أرضًا لو لا لطف الله، إلى جانب افتقار المكان لمجارٍ داخلية جيدة تساهم في تصريف المياه، الأمر الذي أدى لتكوين المياه (الراكدة) في بعض من المواقع المتناثرة، كما لحق الإهمال وغياب الصيانة الأعمدة والركائز التي تثبت (الأسقف)، والتي تآكلت نتيجة تجمع (الأرضة) حولها.. تصادف مع زيارتنا عمل إصلاحات للأسقف المتاهلكة في الطابق العلوي، وبحسب أمين المتحف لـ(الصيحة) الأستاذة نعمات محمد الحسن أبوريدة أن العمل سوف يستمر إلى أن تتم معالجة القصور بالشكل الكامل، وأيضاً يشهد المتحف عمليات توصيل وإصلاح للكهرباء حتى يستقبل زواره الذين غابوا عنه يوماً أو يومين عندما طمرته المياه وبسبب المعالجات.

قيمة المكان

يعلم الكثيرون أن متحف (الخليفة) عبارة عن قطعة أثرية قيمة، ولكننا هدفنا من خلال هذا التحقيق استعراض محتوياته التي وقفنا عليها لمن لا يعرف.. فهو وبحسب (جولتنا) يحتوي على عدد كبير جداً من المقتنيات الهامة ترجع لفترة الحكم العثماني ــ هكذا كشفت لنا أمين المتحف نعمات، منها (العملات ـ ورايات دولة المهدية ـ والأسلحة البيضاء ـ وجزء كبير جداً من السيوف ـ وأدوات ووثائق الحرب من مكاتبات الدولة المهدية ـ والجبب ومجسم نموذج لحرس الخليفة)، وغيرها من الموروثات التي تعكس تاريخ البلاد.

كما يحتوي على أقسام منها قسم الاستقبال، ثم جناح الزائرين وجناح زوجات الخليفة، وجناح آخر للوزراء وغرف للاجتماعات، ويشتمل على خلوة خاصة بـ(عبد الله) لتلاوة القرآن .. وهناك أبواب متعددة منها باب (الزوجات) والأبناء ـ وباب الأمير يعقوب، وباب المسجد الملحق بالبيت بشكل مباشر له أثره التاريخ، كما يوجد باب يقود لبيت المال من الناحية الجنوبية، ما زالت هذه المكونات موجودة كمعالم وإن أصابها شيء من التآكل والتهالك.

تفيد محدثتي أن شكل العرض القائم الآن يزيد المكان ألقًا وجمالاً وقيمة، فالمتحف يحتوي عرضاً لفترة السودان منذ العهد التركي المصري، وفترة الدولة المهدية وهي فترة (الخليفة)، ويتمثل العرض إلى جانب ما ذكر آنفاً في (أزياء وصور لعدد من الأمراء وعدد من الوثائق الهامة) الخاصة بالفترة.

معلومات قيمة

يعتبر متحف (الخليفة) من أعرق المتاحف بالبلاد، وهو يزود الزوار بمعلومات قيمة عن التاريخ، حالياً يمر هذا الصرح بظروف سيئة وإهمال ظاهر للعيان بحسب ما أشارت إليه (نعمات) التي تعتبر أن فصل الخريف مرحلة حرجة بالنسبة لمبنى مشيد من (الجالوص) وتؤكد أن السقوف آيلة للسقوط، كما غمرت الأمطار أرضه الخميس قبل الماضي فصعب على السياح دخوله، بالتالي تم إغلاقه بغرض الصيانة، نتيجة لذلك انطلقت مبادرة جادة من (أسرة الخليفة) برئاسة المهندس (عبد الرحمن) ووزارة الثقافة والإعلام والسياحة، والإدارة العامة للآثار ولاية الخرطوم، حيث تبنت مشروعاً لصيانة المتحف صيانة كاملة، حتى يرتقي إلى مستوى المتاحف المحلية والإقليمية.

وفيما يتعلق بأعمال الصيانة الحالية في الغرف المتأثرة بالأمطار فهو يتم تحت إشراف قسم الترميم بالهيئة العامة للآثار والمتاحف، وأشارت إلى أن المشكلة الأساسية التي تواجه نشاط المتحف متمثلة في عدم رصد ميزانية مخصصة تسهم في أعمال الصيانة في غرفة الملازمين حتى المخازن، وأكدت على حاجته لمعالجات جذرية وليست مسكنات.

ربكة في العرض

يعمل المتحف طوال الأسبوع عدا يوم الإثنين فهو عطلة رسمية للعاملين، وخلال هذه الأيام يلاحظ الزائر ربكة في العرض تمثلت كما تقول نعمات في عدم إمكانية تطويع تسلسل التاريخ، إذ أن الإدارة غير قادرة على تطويع التاريخ وهذا الأمر بحاجة لمعالجات وكل معالجة بـ (قرش).

وحول دورهم لمخاطبة الجهة المختصة أفادت أنهم يقومون برفع تقرير شهري للهيئة العامة للآثار يشرح وضع المتحف واحتياجاته، وأبانت أنه قامت الإدارة بالاتفاق مع شركات لتوفير كاميرات للسلامة الداخلية وذلك لتأمينه، والآن الأمر في مرحلة العطاءات. وتاكيداً لحمايته يفتح ويغلق بواسطة محضر رسمي وهناك لجنة مكونة من أمين المتحف أو المساعد الفني وفني كهرباء ورئيس وردية، وفرد من الشرطة أو المباحث، وهناك تأكيد على كل المقتنيات ومراجعتها بشكل يومي إلى جانب تأمين الكهرباء، وهي لجنة ثابتة مع تغير الأفراد.

وختمت أن الاهتمام بالمعالم التاريخية عموماً شبه ضعيف والنظرة إليها ما زالت (طشاش)، مطالبة بضرورة عمل لوحات مضيئة جاذبة والارتقاء بالعمل بداخله عبر دواليب عرض جيدة مع الصيانة الدورية، إضافة لتوفير خدمات ومقابل ذلك ترفع قيمة التذكرة البالغة خمسة جنيهات للسواح الأجانب، والأهم من ذلك صنع بوابة (حرم) للمتحف لأنه غني بفكرته ويجب أن يظهر بثوب فاخر.

استمرار الصيانة

أثناء وجود الصحيفة بمقر المتحف حضر عدد من (آل الخليفة) للوقوف على الوضع وتقديم ما يمكن تقديمه من مساهمات وعقدوا اجتماعات مطولة في هذا الخصوص، وكان من بينهم (أبوبكر عبد المنعم عبد السلام) خليفة المهدي، الذي قال لـ(الصيحة): من الطبيعي أن يتعرض المبنى للتصدعات نظرًا لأن عمره فاق الـ(116) عاماً، ففي العام الماضي، وفي فصل الخريف كونت لجنة لعمل معالجات مؤقتة، ويشهد هذا العام تنفيذ حملة وتحركات لصيانته، وذلك بمشاركة المختصين في الآثار الذين يشهد لهم دورهم الكبير في هذا الجانب، مؤكدًا استمرار المعالجات والتي سوف تمتد حتى تشمل كل الآثار المهدوية في الولاية، فيما أكدت السيدة (سهير ياسين محمد الأمين الخليفة عبد الله) على جديتهم في إعادة الترميم ومشاركاتهم في الاحتفالات باليوم العالمي للمتاحف ومشاركة الجهات الرسمية في هذه الاحتفالات، كما تواجد بعض من أعضاء المبادرة الأسرية الشعبية الأمدرمانية والتي يقودها محلياً (محمد عبد الوهاب الأمين) الذي أوضح أن المبادرة تأتي تحت مسمى (السور يجمعنا)، وهي قامت منذ ثلاثة أعوام وانطلقت بعد انهيار الحائط الشرقي للمتحف، وعبرها قدم نداء واستغاثة لكل أبناء أمدرمان والحادبين على مصلحة وآثار البلد لترميم السور، بعدها تم توسيع مظلة اهتمامات المبادرة بالوثائق التاريخية في أمدرمان خاصة والسودان عامة، وكان أول تحدٍّ هو متحف بيت الخليفة .

تجديد النداء

ما سببته الأمطار الأخيرة بالبيت بعد أن أصابت جزءاً كبيراً منه، ولحق التلف المقتنيات من الناحية الجنوبية دفع أعضاء المبادرة للنهوض مجددًا والعمل على إعادة إطلاق نداء، وذلك بالتضامن مع أسرة المتحف، وكل العاملين والفنيين كما يفيد (محمد)، وهي تضامن لجهود شعبية رسمية حيث تم تلافي ما أصاب المكان من أضرار، كما أن المسؤولين بمتحف الخليفة وجهوا يد العون وقاموا بتوفير المساعدات الفنية التي يحتاجها العمل، نظراً لأن صيانة المعالم التاريخية تحتاج لمعايير خاصة بحيث لا يفقد المَعلَم الأثري قيمته، وأشار إلى أن العمل بدأ بصيانة الكهرباء ومجاري تصريف مياه الأمطار إلى جانب صيانة السقوف العلوية الآيلة للسقوط، وسوف يمتد عمل المبادرة حتى يصبح المتحف خالياً من العيوب التي تعرضه للانهيار، والفضل يعود لعدد من الأفراد منهم (ريم موسى يعقوب الحلو) المتواجدة حاليًا ببريطانيا والتي تشحذ الهمم من هناك ولها جهود معنوية ومادية، وناشد أبناء الوطن الذين يهمهم التراث والإرث السوداني أن يتدافعوا لإنقاذه.

قيام جمعية

فيما وجه دكتور (عبد الرحمن علي) مدير عام المتاحف الفنيين بورشة الهيئة لمعالجة الأسقف المنهارة، مشيراً في مداخلة بوسائط التواصل الاجتماعي إلى تأخر الصيانة خلال العام الجاري لعدم توفر الميزانية الممنوحة من الدستور والتي تقوم وزارة الثقافة والسياحة الولائية بتخصيصها للمتاحف عامة مؤكداً على دورهم في الحفاظ على الآثار والمعالم التاريخية التي تعكس مسيرة البلاد، يهتم بأمر المتحف أولاً وأخيرًا الزوار والسياح الذين أخبروا الصيحة عن حزنهم البالغ لما يتعرض له هذا الصرح سنوياً نتيجة الأمطار دون تدخل من الدولة وتحديدًا الجهة المعنية، ويقول (أيمن بابكر) طالب بجامعة الخرطوم إنه يحرص على زيارة المتحف والوقوف على القطع الأثرية الموجودة بداخله، لأنها تفيده في دراسته، ولكنه لم يتوقع أنه مثله مثل البيوت العشوائية يتأثر بالأمطار، غير أنه تفاجأ الأسبوع الماضي بإغلاقه لأنه تحول إلى مسبح، ويرى أن هذا الأمر يعتبر فضيحة كبيرة في حق الحكومة السودانية، لأن المكان يرتاده الأجانب بشكل دوري مما يعكس صورة سالبة عن الاهتمام بالآثار، واتفقت معه الموظفة (نهى عبد القادر) في الرأي والتي أكدت على أهمية هذه البيوت التي لها قرن من الزمان، وكشفت عن تكوين رابطة من الطلاب والموظفين أصدقاء المتحف لجمع اشتراكات شهرية وإحضار مواد البناء لعمل صيانات المتحف في ظل تجاهل الجهات المعنية بالأمر.

ختاماً

ما زال الخريف مستمراً.. وربما يتعرض المتحف لنكسة أخرى إذا هطلت مطرة واحدة في ظل أنه يعاني ما يعاني .. ونتمنى في المرة القادمة أن يكون هناك دور ملموس لمحلية أمدرمان بدلاً من الزيارة التفقدية والسير داخل المياه الذي لا يفيد، فبيت الخليفة بحاجة ملحة لكل دعم مالي يساهم في تحديثه وارتقائه لمصاف المتاحف..

الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..